الأغنية العراقية انثروبولوجيا

إن تاريخ الغناء قديم قدم التاريخ الإنساني، ويكاد يتفق علماء الانثروبولوجيا اليوم على أن الغناء في عصرنا الحالي له جذور تربطه بالأداء الطقوسي في معابد الحضارت الإنسانية الاولى في التاريخ، حيث ارتبط الغناء بالطقوس الدينية وبما عرف بالرقص الديني في معابد مصر والعراق والهند.
كما يشير بعض دارسي الفلكلور والانثروبولوجيا الثقافية إلى أن الاغنية هي بطاقة الهوية بالنسبة للشخصية الوطنية، أو القومية في أي أمة من الأمم، انها المرآة التي تنعكس فيها نفسية شعب من الشعوب، ومن الملامح المبثوثة في الاغنية تتشكل الملامح الطبيعية العامة لشخصية هذا الشعب أو ذاك، لذلك لم يكن عبثا أن يعنى المستشرق ماسبيرو، وهو أحد علماء الحملة الفرنسية على مصر عام 1798ـ بجمع الاغاني الشعبية المصرية الدارجة في ربوع مصر من اقاصاها إلى اقصاها، بكلماتها وألحانها ليصدرها في جزء من السفر المهم «وصف مصر»، الذي أرخ المرحلة بطريقة علمية.
وفي العراق الحديث في مطلع القرن التاسع عشر كان المجتمع العراقي، كما يشير د. حنا بطاطو في كتابه المهم عن العراق، إلى أن العراقيين لم يكونوا في تلك الفترة شعبا واحدا، أو جماعة سياسية واحدة، وهذا لا يعني الإشارة فقط إلى وجود العديد من الاقليات الاثنية والدينية والطائفية في العراق، وإنما العرب انفسهم الذين يؤلفون اكثرية سكان العراق كانوا يتشكلون من جملة من المجتمعات المتمايزة والمختلفة في ما بينها، والمنغلقة على ذاتها، رغم تمتعهم بسمات مشتركة عديدة.
لذلك يمكننا أن نرى تنوعا كبيرا في الاغنية العراقية تبعا للمكان والمجتمع الذي وجدت فيه، وعلى هذا الاساس انقسم الغناء العراقي إلى ثلاثة اقسام رئيسة هي، غناء المدن وغناء الريف وغناء الصحراء، أو البادية، وبدوره كل قسم من هذه الاقسام ينقسم إلى تقسيمات فرعية، ولكل نوع من الأنواع الثلاثة سماته البنيوية التي تميزه عن الأنواع الاخرى، ولكن وفي الوقت نفسه هنالك مشتركات تجمع بين الانواع الثلاثة.
غناء المدينة في بدايات القرن العشرين يمثل امتدادا لغناء القرن التاسع عشر، حيث وجود الانتلجنسيا العثمانية، وما تشكله من سطوة النمط التركي العثماني على الذائقة وعلى الثقافة المدينية، التي تمثلت بأوضح صورها في ثلاث مدن كبيرة هي، بغداد وكركوك والموصل، والشكل الاهم والابرز في غناء المدن الثلاث كان (المقام العراقي ) وهو اداء تطريبي قائم على الصوت البشري، أي لا يستند إلا في حدود ضيقة على الآلة الموسيقية، وكما يبين الاستاذ حسين قدوري؛ المقام العراقي، صيغة من صيغ الغناء لا تجد له مثيلا» في أي بلد عربي آخر. ومن هنا جاءت تسميته بـ (المقام العراقي). وللمقام العراقي أصول فنية ثابتة ومتوارثة عبر الأجيال جعلته يندرج ضمن ما نطلق عليه الغناء التقليدي، أي ذلك الغناء الذي نشأ ونما وتطور في المدينة..إن كلمة المقام عرفت في العراق في أواخر القرن الثامن الهجري، حيث وردت في المخطوطات الموسيقية العربية ولم تظهر تلك الكلمة قبل ذلك على ما يبدو، ولا تتوفر المصادر التي تشير إلى خلاف ذلك. ولكن بعضها يشير إلى وجود خصائص في أساليب الغناء البغدادي الراهن انحدرت من الصيغ المقامية التي قد يعود تاريخ نشوئها إلى العصر العباسي.
ومن سمات الاغنية المدينية اعتمادها الشعر الكلاسيكي الفصيح في كلام الاغاني مع دخول محدود للهجة العامية، كما نلمس كما من المفردات التركية والفارسية التي تتداخل مع القصيدة العربية، لتشكل خلطة تمثل ثقافة النخبة في المدينة، كما أن مؤدي المقام عادة ما يكونون من الرجال، اذ لم تشارك النساء في هذا اللون من الغناء بسبب الوضع الاجتماعي للمرأة المستبعدة من الحياة العامة، فلم تكن المرأة المدينية تخرج للعمل الا في حدود ضيقة جدا، كما أن من سمات غناء المدينة انه كان مصهرا تتداخل فيه المكونات الاثنية والدينية، بخلاف النقاء العرقي والديني الذي يميز الغناء الريفي والبدوي، ففي المدينة تجد كل الاعراق، من عرب وأتراك وكرد وفرس، يشتركون في غناء المقام العراقي، وقد يحدث بناء على ذلك سمات واضافات بحسب اصل المغني وتركته الثقافية الاجتــــماعية، التي يحــــملها كفرد من مجموعة ثقافية، ومن ذلك يمكــــن أن نلاحظ اختلافات انماط الاداء في كركوك او الموصل عن بغداد، كما أن الفرق يكون اكثر وضوحا في المدن الكردية، اذ يختلط هذا اللون من الغناء بثقافة آرية هي ثقافة المحيط، التي تمنح الأداء الموسيقي والغنائي الكردي بهجة والوانا مفرحة، تتقارب أو تتشابه مع لون الغناء في دول آسيا الوسطى مثل تركيا، ايران، اذربيجان وتركمانستان… الخ.
كما أن مختلف الطوائف الدينية في المجتمع المديني كانت تشترك في الاداء الموسيقي والغنائي، ويمكن للمراقب أن يلحظ في الفترة الممتدة من منتصف القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين الوجود الكثيف والمؤثر للطائفة اليهودية العراقية في مجال الموسيقى، فقد كان اليهود يمثلون العازفين الامهر بين اقرانهم ويكادون يحتكرون مهنة عازفي الموسيقى في بدايات القرن العشرين.
إن التحول الاهم في غناء المدينة حدث ابان الانقلاب العثماني عام 1908 وما استتبعه من إطلاق الحريات والعمل بالدستور وتغير نمط الحياة العثمانية الراكدة، ليدخل المجتمع العراقي في حقبة الحداثة، ومن مظاهر هذه الحقبة انتشار أماكن اللهو العامة، ومنها المقاهي التي تقدم الجوق الموسيقي مع مطرب ثم تحول بعض هذه الاماكن إلى ملاه (نوادي ليلية بالمفهوم الحديث) ولخدمة هذه الاماكن فقد فتح الباب لانتقال مغنيات وراقصات من مصر وبلاد الشام إلى العراق، وكان القانون يشترط أن يكون من يمتهن مهنة الغناء والموسيقى والرقص من غير المسلمين، مما شكل ظاهرة سطوة الاقليات المسيحية واليهودية على عالم الاغنية المدينية حتى ثلاثينات القرن العشرين.
بينما كانت مدينة البصرة وهي المدينة الاكبر في جنوب العراق متفردة، أو لها خصوصيتها بسبب إطلالتها على البحر واتصالها كميناء بثقافات خارجية، كالثقافة الهندية او ثقافة شرق افريقيا، التي تترادف مع البضائع التي تحمل إلى الميناء، فنرى أن الغناء البصري له خصوصية أغاني البحر بإيقاعاتها الهندية والافريقية، كذلك وضمن تنوع البصرة، يمكننا أن نلاحظ اختلافا بينا بين وجهتها البحرية وما أشرنا إليه ووجهتها الصحراوية من الجانب الاخر للمدينة وتأثرها، أو ارتباطها بالكلام واللحن البدوي. كما أن أنماط غناء شمال البصرة القريبة من اهوار الناصرية والعمارة مثلت حلقة ربط وسيطة بين غناء المدينة وغناء الريف.
أما الريف وقد كان يشكل الجزء الاكبر من المجتمع العراقي فقد كانت له اغنياته الخاصة به وانماط غنائه التي عرفت في ريف جنوب العراق بالاطوار، وسمتها الرئيسة الاعتماد على مقامات موسيقية محدودة يؤديها المطرب مع آلات موسيقية بسيطة، والكلام المغنى عادة ما يكون من الشعر المكتوب بالعامية العراقية، وقد بقي هذا النمط من الغناء معزولا ومناطقيا حتى الاربعينيات، حيث اثر حدثان مهمان في شيوع غناء الريف وتعرف الناس عليه، الحدث الاول هو دخول شركات تسجيل الاسطوانات الاجنبية إلى سوق الغناء العراقي، واتفاقها مع ابرز مطربي الريف على تسجيل اغانيهم على اسطوانات تم تداولها في مجتمع المدن في المقاهي والبيوت، حيث شاع استعمال الجراموفون في هذه الحقبة. والحدث الاخر هو افتتاح الاذاعة اللاسلكية العراقية ودخول مطربي الريف لها في برامج محددة وقليلة في البداية، حتى اكتسبت شعبيتها لدى المتلقي العراقي فاصبحت جزءا اساسيا من برامج الاذاعة في ما بعد. وقد ارتبط شيوع الغناء الريفي بظاهرة الهجرة من ارياف الجنوب باتجاه المدن الكبرى كبغداد والبصرة وتداخل ثقافة الريف التي كانت تعد ثقافة مهمشة في صلب ثقافة المدينة وارتباطها معها في نسج هوية عراقية تربط ريف العراق بمدنه، وهذا ما حدث في التداخل الكبير الذي حصل بعد الستينيات نتيجة سيطرة موجة ايديولوجيا اليسار على المشهد الثقافي والفني في العراق.
اما الغناء البدوي فكان منتشرا في بوادي العراق الغربية والشمالية الغربية ويمثل امتدادا لنمط الغناء الصحراوي المجاور في صحراء الجزيرة العربية وبادية الشام، وهو نمط موسيقي بسيط بساطة الصحراء، يعتمد في الغالب على آلة موسيقية واحدة هي الربابة أو الطبل أو المزمار، والكلام المغنى هو نوع من شعر المحكية باللهجة البدوية المعروف بالقصيد، وبقي هذا اللون ماثلا بحاله بدون تداخل مع الأنماط الاخرى، رغم دخول اهم رموزه إلى الاذاعة ومن ثم التلفزيون والتسجيلات الصوتية، ولم يشهد هذا النمط تداخلا مع غناء المدينة أو الريف إلا في فترات متأخرة في ثمانينيات القرن العشرين ووظف هذا التداخل بشكل اساس في اغنية الحرب ابان الحرب العراقية الايرانية.

٭ كاتب عراقي

صادق الطائي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    مقالة ممتعة مليئة بالمعلومات التأريخية خاصة المقام العراقي المشهور
    شكرا يا أستاذ صادق على ما تتحفنا من مواضيع متنوعة ومشوقة
    فأنت عراقي أصيل بكل امتياز – كثر الله من أمثالك الوطنيين

    ولا حول ولا قوة الا بالله

إشترك في قائمتنا البريدية