تصنف جوديث بتلر في كتابها «الذات تصف نفسها» (ترجمة فلاح رحيم/ دار التنوير)، التحليل النفسي ضمن مصادر العنف الأخلاقي، إذ يطالب المريض بتقديم سرد منسجم ومتناسق لتجاربه من دون أن يأخذ بعين الاعتبار مسألة فائض السرد. هو يشارك في تقديم وصف للذات يتناقض مع الأهمية الأخلاقية لتشكلها.
وعليه، سيكون من «المستحيل الكلام من دون الوقوع في الخطأ عن اللاوعي الخاص بي لأنه ليس ملكية، بل هو ذلك الشيء الذي لا يمكن أن أمتلكه». ما يعني أن نسبة حياتي لي لا تمثل بالضرورة شكلها القصصي. فالـ«أنا» التي تبدأ برواية قصتها، لا تستطيع أن تفعل ذلك إلا بحسب قواعد معروفة لسرد الحياة.
فبقدر قبول الـ«أنا» منذ البداية بسرد نفسها عبر هذه القواعد، فإنها توافق على توصيل سردها عبر وسيلة خارجية. وبالتالي تربك مسارها في تقديم رواية باستخدام أنماط من الكلام ذات طبيعة لا شخصية.
بالطبع كان لاكان قد أوضح أن أي وصف نقدمه للحظات الاستهلالية الأولى للذات يكون متأخراً ومتوهماً، ويقع لا محالة تحت تأثير «الفعل المؤجل». كذلك، تكون السرديات التطورية عرضة للوقوع في الخطأ عندما تفترض أن رواية السرد يمكن أن تكون حاضرة بالنسبة لأصول القصة المروية، بينما الأصل لا يصبح متاحا إلا على نحو ارتدادي وعبر شاشة الفنطازيا.
توجه بيتلر النقاش نحو كتابات المحلل النفسي لابلانش، الذي عاتب فرويد على إغفاله الآثار التي يخلفها الآخر على الذات، وهو ما عمل على تطويره انطلاقا من وقوفه على نظرية الغواية التي مكنته من الوصول إلى نتيجة تتعارض مع استنتاجات فرويد. فقد أوضح أن العصاب يتولد عن صدمة جنسية مبكرة يلعب فيها الغير المتمثل في البالغين وفي لاوعيهم دورا حاسما في تشكيل الجهاز النفسي للذات. مكونات الجهاز النفسي الرئيسية (الأنا/الأنا الأعلى) تأتي متأخرة مقارنة مع النقوش الأولية الملغزة التي يتركها الغير على الذات في المراحل الأولى من تكونها (عالم الطفل).
ذلك يطرح تساؤلاً حول الذات التي لا تملك القدرة على السيطرة على نفسها وتحديد مصيرها وتوجيه أفعالها، فلماذا نطالبها بتحمل المسؤولية على ما تقوم به من أفعال؟
في إجابتها عن هذا السؤال تركن بيتلر، إلى إعادة تعريف مفهوم المسؤولية، التي تعني الاقرار بالعوائق التي تمنع الذات من التعبير عن نفسها، وهي قيود تكشف عن وجود عتمة تتخلل الذات والجماعة. قيود تضفي على الذات صفة الإنسانية، فالآخر هو مصدر هذه العتمة وهو في الوقت نفسه السبيل الوحيد لتحقيق الاعتراف بالذات.
هنا، تعرج بيتلر نحو الفيلسوف ليفيناس الذي يرفض مشروع الأنطولوجيا الذي تتبناه الفلسفة الغربية، والذي تهدف من خلاله إلى اختزال الآخر إلى شبيه واختزال الاختلافات بين الأفراد في مفهوم محايد أخلاقيا لا ينصف الغيرية، فهو يدعو إلى إعادة الاعتبار للفرد الذي أهدرت كرامته من طرف قوى مجهولة أصبحت مثار تأمل الفلسفة الغربية.
يقابل عداء ليفيناس للأنطولوجيا ولاءه للميتافيزيقا بما هي تسعى إلى ما وراء ذاتها وتتجه إلى الآخر المغاير، اضافة إلى اشتغالها على الأسئلة الأخلاقية. تتأسس نظرة ليفيناس حول العلاقة ذات/غير على مفهومين جوهـــــريين: الأول: يسميه مفهوم «العلاقة وجها لوجه» وهو مفهــــوم يشدد على وظيفة نظرة الغــــير، ويشيد بطابعها الذرائعي الأخلاقي، على العكـــس مما ذهب إليه سارتر من كون نظرة الغير تسلب تمركز الأنا حول ذاته، وتقلص من حريته وتضطهدها وتقمعها. إن انتماء الذات حسب ليفيناس إلى لغة ما، ودخولها في علاقات بينية مع الغير، يفرض عليها التحكم في خطابها ولغتها واستحضار ما يسميه فوكو بآليات الحجب والمنع.
وهذه السلطة التي تمارس على الذات من قبل المنظومة الاجتماعية التي تنتمي إليها تجعل الذات تلجأ إلى الاعتذار والدفاع عن النفس انطلاقا من تفاعلها وجها لوجه مع الغير. فحضور الغير متمثلا في نظرة عينيه يدفع الذات إلى التبرير وإلى استحضار قيم العدالة والإنصاف.
أما المفهوم الثاني، يطلق عليه ليفيناس اسم الاستبدال، ويقصد به تلك العملية التي تستبدل من خلالها الذات ذاتها لتحل محل ذات أخرى، كي تتخذ منها أرضية تنطلق منها كل أفعال التضامن والاجتماع وهكذا تحقق الذات ذاتيتها من خلال شعورها بالمسؤولية اتجاه ذات الآخر.
تتعذر عملية انخراط الذات في تشكيل سرد حول نفسها، عندما تعجز عن إيجاد شروط تكفل لها قول الحقيقة كموضوع صياغة تامة، لأن ما نقوله يعتمد على طريق تكويننا، وعلى اجتماعية، وملموسية لا يمكن بسهولة إن أمكن على الإطلاق، أن يعاد تكوينها في السرد.
وعلى نحو متناقض، أنا أفقد ملكيتي عند القول، وفي فقدان الملكية هذا يتولى القيادة ادعاء أخلاقي، إذ لا وجود لـ«أنا» تنتمي إلى ذاتها.
٭ كاتب مغربي