قبل الامريكيون، على مدى سنوات ما بعد 2003، بقواعد اللعبة المزدوجة التي يمارسها الفاعل السياسي الشيعي في العراق، وهي اللعبة التي أتاحت لإيران أن تكون شريكا رسميا للأمريكيين في فرض شروطها على الدولة التي يعاد تشكيلها! وصل الأمر في لحظات كثيرة إلى «التطابق» في وجهات النظر، كما حدث في مسألة إعادة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي إلى رئاسة الوزراء لولاية ثانية!
بعد أن سيطر تنظيم الدولة على أكثر من ثلث الأراضي العراقية في بضعة أسابيع! كان واضحا ان إدارة الرئيس أوباما قد قبلت بقرار الفاعل السياسي الشيعي بإدارة المعركة بأدوات طائفية بحتة! من خلال قبولها الضمني بأن تكون الميليشيا العقائدية العاملة تحت مسمى «الحشد الشعبي»، والتي تتبع في معظمها الى الحرس الثوري الايراني، فاعلا أساسيا في المعركة. وقد تجسد هذا القبول اثناء معركة «آمرلي» في منطقة سليمان بيك، حيث قدم الامريكيون المساعدة الحاسمة لهذه الميليشيات في أول تحرك «مشترك». صحيح أن العلاقة بين الطرفين قد مرت ببعض التقاطعات، كما في حالتي الرفض الأمريكي لمشاركة هذه الميليشيات في معركتي تكريت والرمادي، وأخيرا في معركة مدينة الموصل، لكن الطرفين كانا شريكين كاملين في المعارك الاخرى، سواء عبر تقديم الغطاء الجوي الصريح لهذه الميليشيات! أو عبر التغاضي عن تسليح هذه الميليشيات بالأسلحة الأمريكية المختلفة، او تسليحها بصواريخ حرارية من طراز أي تي ـ 4 المضادة للدروع لمواجهة السيارات المفخخة المحصنة التي يستخدمها تنظيم الدولة. وكان تلاقي الأسلحة الأمريكية والايرانية دلالة رمزية مكثفة على طبيعة التواطؤ الصريح بين الطرفين!
وبعد الفيتو الامريكي على مشاركة ميليشيا الحشد الشعبي في معركة الموصل ، كان لا بد من إرضاء هذه الميليشيات بمنحها قاطع تلعفر، الأكثر أهمية بالنسبة لها من مدينة الموصل، ليس بسبب الطبيعة الديمغرافية للمدينة (مدينة تلعفر مدينة تركمانية تضم غالبية سنية وأقلية شيعية)، وإنما بسبب موقعها الاستراتيجي على مقربة من الحدود السورية، وأهميتها القصوى في خرائط ما بعد تنظيم الدولة التي يراد رسمها، تحديدا فيما يتعلق بما أسميه «طريق الحرير الايراني» الذي يعبده الايرانيون لغرض الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط! ولتشكيل «البدر الشيعي» الذي يعد به قيس الخزعلي قائد ميليشيا عصائب الحق في تصريحاته! وقد استطاعت هذه الميليشيات فعلا، ومن خلال تواطؤ أمريكي صريح، بالانفتاح على جنوب تلعفر للسيطرة على مناطق الحضر ومن ثم للسيطرة على منطقة البعاج التي ترتبط بحدود مشتركة مع سوريا تمتد لمسافة يقارب 140 كم في مقابل محافظتي الحسكة ودير الزور السوريتين.
في المقابل كان الأمريكيون حريصين على منع القوات السورية والميليشيات الحليفة لها التي تقودها إيران أيضا، من التقدم باتجاه منطقة التنف السورية في محافظة تدمر، التي تقابل محافظة الانبار العراقية في نقطة المثلث الحدودي الرابط بين العراق وسوريا والأردن، ليس عبر المنشورات فقط التي وصفت أي تقدم باتجاه التنف السوري عملا عدائيا، ولكن عبر قصف جوي لميليشيات عراقية أرادت التقدم باتجاه الحدود في هذه المنطقة من الجانب العراقي!
إن هذه الموقف الامريكي المتباين يكشف هو الآخر بان ثمة «خرائط» امريكية ايضا لمرحلة ما بعد داعش ! هكذا تكون الحدود السورية العراقية في قضاء البعاج التابع لمحافظة نينوى محل تواطؤ أمريكي ايراني صريح، وتكون هذه الحدود السورية العراقية نفسها في محافظة الانبار محل صراع! ليس عسكريا فقط، وإنما سياسيا واقتصاديا أيضا! فالأمريكيون وافقوا على أن تتولى مجموعة «أوليف» الأمنية حماية واستثمار الطريق الدولي الرابط بين العراق والأردن وسوريا، وقد وقعت حكومة العبادي هذا العقد فعلا. في المقابل كان ثمة رفض من اليمين الشيعي المرتبط بايران، بضمنها الميليشيات لهذا العقد، فقد وصفه بعضهم محاولة أمريكية لقطع الامتداد الاستراتيجي بين إيران والعراق وسوريا ولبنان أو حسب تعبيره «لقطع الهلال الشيعي»!
يحيل هذا الموقف الامريكي المتباين إلى الخطابات الأمريكية التي لم تتوقف تجاه إيران، بداية من الحملة الانتخابية للرئيس ترامب، والتي تم التركيز فيها بشكل رئيسي على الملف النووي الايراني، مرورا بتطور هذا الموقف لمواجهة النفوذ الايراني في المنطقة، وصولا إلى مؤتمر الرياض الذي انتهى بشكل صريح إلى إعلان محور مضاد لايران في المنطقة ككل! ولكن هذه الخطابات لم تنعكس حتى اللحظة على الأرض بشكل عملي! ففي سوريا يبدو الامريكيون أكثر قربا من الروس من أي مرحلة سابقة! أما في اليمن فلا مؤشرات على الأرض على تغيير حقيقي في الموقف الامريكي! وفي العراق، لا توجد حقيقة استراتيجية أمريكية واقعية للتعاطي مع الأزمة العراقية، فباستثناء الالتزام المعلن بهزيمة تنظيم الدولة ، لا يبدو الامريكيون مستعدين للتعاطي مع الأزمة السياسية الجوهرية في العراق، بل يبدو الموقف الأمريكي أقرب إلى استنساخ سيناريو إدارة الرئيس اوباما في التعاطي مع هذا الملف! أي دعم الهدوء الهش في العراق، عبر دعم العبادي، والثقة بسياسياته فيما يتعلق بمواجهة أثار ما بعد تنظيم الدولة ، بضمنها التعاطي مع ميليشيا الحشد الشعبي! وكأن الأزمة العراقية مجرد ازمة أمنية بدأت في حزيران 2014، أي من لحظة سيطرة تنظيم الدولة على الموصل، وليست أزمة سياسية بدأت منذ لحظة الاحتلال الامريكي للعراق في العام 2003! فالأمريكيون الرسميون يتحدثون عن سياسة أمريكية تتعلق بالمساعدات الانسانية من خلال ملفي النازحين وإعادة الإعمار، وإعادة ربط العراق بمحيطة الإقليمي، وعن تعاون اقتصادي، من دون أي التزام بالمساعدة في انتاج حل سياسي يعيد تصحيح الاختلالات العميقة في إدارة الحكم والدولة في العراق والتي أنتجها الامريكيون أنفسهم! وهذا الموقف يعني عمليا استمرار إدارة ترامب بالقبول الصريح باللعبة المزدوجة التي أتقنها الفاعل السياسي الشيعي المهيمن على الحكم والدولة في العراق، أي التعاطي مع نفود ايراني ـ امريكي وإدارته بما يضمن فرض الامر الواقع الذي يريده هذا الفاعل!
في إطار هذا التعاطي الامريكي مع الازمة في العراق، لا تبدو الميليشيات المرتبطة عقائديا وأيديولوجيا وتنظيميا بايران، انها تشكل خطرا حقيقيا! فالأمريكيون مطمئنون تماما على قدرة العبادي على التعاطي مع هذه المليشيات بموجب القانون الذي تم تشريعه لشرعنتها! دون النظر الى خطر هذه الميليشيات على بنية الدولة نفسها! أو على الاستقرار والأمن فيها!
إن التباين الشديد بين الخطابات الأمريكية الصاخبة حول إيران، وبين الوقائع وما تعكسه من تواطؤات على الأرض، لا يمكن أن يؤدي بأي حال من الاحوال إلى استقرار حقيقي، لا في العراق ولا في سوريا أيضا، خاصة مع بداية تداخل الملفين بشكل عملي كما اوضحنا! وإذا كان ثمة من يتوهم ان هزيمة تنظيم الدولة العسكرية يمكن ان تسمح بفرض واقع متخيل ينتج هدوءا هشا على المدى القريب، فان جميع المعطيات تؤشر إلى أن هذا الامر الواقع الجديد المفروض قسرا، والمقبول أمريكيا! لن يؤدي إلا إلى مزيد من التطرف والصراع على المدى المتوسط والبعيد!
٭ كاتب عراقي
يحيى الكبيسي