إن «تدويل الريع» الذي تعتاش منه أنظمة الهوس الأمني العربية هو من أهم الأسباب التي مكنتها من إفشال الثورات الشعبية العربية. فلو كان هذا الريع داخليا فحسب، أي أنه لو لم يكن يتمثل إلا في نهب موارد البلاد، بمثلما كان الأمر في تونس في عهد بن علي، لكانت احتمالات إفشال الثورات أضعف. ولكن نظرا إلى أن الريع الذي تعتاش منه هذه الأنظمة «الأمنوقراطية» العربية مدوّل إلى حد بعيد، لأن المصالح الأجنبية هي التي تضمنه، فإن الحكام في هذه الدول لا يتجاهلون المواطنين ويستهزئون بمطالبهم فحسب، بل إنهم يعاملونهم كما يعامل الاحتلال الأجنبي شعبا غريبا عنه.
هكذا يحلل الباحث الفرنسي جان ـ بيار فيليو، في كتابه الصادر قبل أسبوع في باريس بعنوان «الجنرالات، والمجرمون والجهاديون: تاريخ الثورة المضادة العربية»، منطق الأحداث الذي أدى إلى فشل الثورات العربية في تحقيق أدنى المطالب الشعبية التي أدت إلى اندلاعها. إذ يرى أن الريع الذي يمدّ أنظمة القمع العربية بقوتها ضد شعوبها هو ريع مزدوج. يتمثل الريع الأول بطبيعة الحال في النفط، علما أنه ليس ريعا داخليا بالنسبة لمعظم هذه الأنظمة، بل إنه مستمد إما من بعض دول الخليج العربية أو من إيران التي بذلت الكثير لإبقاء نظام آل الأسد على قيد الحياة. أما الريع الثاني الذي بدأ يتعاظم على نحو مشهود منذ بداية القرن الحادي والعشرين، فهو ريع مكافحة الإرهاب. والمدهش أن هذا الريع يبدو غير قابل للنفاد. حيث أن الخطاب الرسمي دائما ما يردد أنه ليس هناك ما يكفي من الموارد لتمويل مشاريع التنمية، ولكن حالما يتعلق الأمر بمكافحة الإرهاب، فإن الموارد تصبح فجأة متوفرة بسخاء.
والمثال الأبرز على ذلك هو أن الحرب على داعش في سوريا والعراق قد كلفت الولايات المتحدة لوحدها في ثلاثة أعوام فقط 14 مليار دولار. هذا فضلا عما أنفقته الدول الأخرى، وهذا رغم أن السياسة الأمريكية أصبحت تتمثل في عدم التدخل العسكري في أي من نزاعات الشرق الأوسط. فتخيلوا لو أن هذه الموارد المالية الضخمة خصصت لتمويل مشاريع تنموية، أو تحسين مستوى التعليم، أو تمكين المرأة اجتماعيا واقتصاديا في المناطق الريفية المحرومة! ويعبر جان ـ بيار فيليو عن هذه المفارقة بالقول: حالما يتعلق الأمر بصرف الأموال لمكافحة الإرهاب، لا يعود هنالك من يعدّ أو يحسب أو يحاسب، لا في الحكومات ولا في البرلمانات. وبالطبع يتفنن حكام الأمنوقراطية العربية الذين يسميهم فيليو «المماليك الجدد»، ويخص بالذكر منهم حكام سوريا ومصر واليمن والجزائر، في استغلال هذا الوضع أبشع استغلال. ويذكر فيليو أن نظام الحكم في مصر ابتلع، على حد تعبيره، 20 مليار دولار بالتمام والكمال في الأشهر الاثني عشر التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي أتى بالسيسي إلى الحكم في صيف 2013.
يرى فيليو أن هنالك تشابها بين الأنظمة الاستعمارية الأوروبية في الماضي والأنظمة الأمنوقراطية العربية في الحاضر، أولا من حيث أن الأولى تمثل احتلالا أجنبيا بينما تمثل الأخرى احتلالا داخليا، وثانيا من حيث أن كلا الاحتلالين يفضلان التعامل مع انتفاضات عنيفة أو مسلحة لأن الاختلال الهائل في موازين القوى يضمن للقوات النظامية دوام سحق هذا الشكل السهل من المعارضة. ولهذا فإن أنظمة الاحتلال الأجنبي والداخلي على حد سواء تعجز، بل تفقد صوابها أحيانا، أمام أشكال المعارضة المدنية والاحتجاج السلمي. وبحكم أن فيليو ألف عدة كتب عن الثورات العربية عموما، والثورة السورية خصوصا، وبحكم أنه عارف بطبيعة دولة آل الأسد التي كان الباحث الفرنسي التونسي المولد ميشال سورا (الذي اغتيل بعد اختطافه عام 1985 في بيروت) قد عرّفها بأنها «دولة الهمجية»، فإنه يوجه انتقادا لاذعا للساسة الغربيين الذين يعدّون نظام آل الأسد أهون الشرّين (الشر الآخر هو الإرهاب باسم الدين)، ويبررون قبول التعامل معه، باعتبار ذلك من مقتضيات الواقعية السياسية، «ريالبوليتيك»، وباعتبار أن الدبلوماسية تتمثل في التعامل مع الأعداء لا مع الأصدقاء. فيقول إن دعاة الواقعية هؤلاء هم أبعد الناس عن الواقع، ذلك أن الجنرالات والمجرمين والجهاديين متحالفون موضوعيا في علاقة من التفاعل الجدلي: كل منهم يمد الآخر بأسباب بقائه. ولهذا يفتتح فيليو كتابه بقولة الكاتب الجزائري كمال داوود: الجهاديون ليسوا أبناء الثورات، بل إنهم أبناء الدكتاتوريات.
٭ كاتب تونسي
مالك التريكي
العلاقة بين الأنظمة الاستعمارية الأوروبية في الماضي وما يصفه المقال بالأنظمة الأمنوقراطية العربية هي ليست علاقة تشابه، بل علاقة استمرارية.
يجب التذكير ان العرب لم يحصلوا على الاستقلال عن جدارة و استحقاق، بل نتيجة ترتيبات تم الاتفاق عليها بين الاطراف المنتصرة في الحرب العالمية الثانية،لم يكن للعرب اي دور في التفاوض حولها. و تزامن تطبيق ذلك مع بداية الصراع بين المعسكرين الشرقي و الغربي حيث حاول كل طرف من المعسكرين ان يستغل الوضع لاقامة انظمة تخدم مصلحته، وهو ما نتج عنه عدم استقرار تجلى في توالي الانقلابات العسكرية في العديد من دول المنطقة في الخمسينات و الستينات.
و قد شكلت الجزائر الاستثناء الذي يؤكد القاعدة، حيث حاولت فرنسا تحدي الاتفاقيات التي لم تكن طرفا فيها عبر الاحتفاظ بالجزائر، ليتم اجبارها لاحقا التخلي عن مستعمرتها عبر حرب التحرير الجزائرية و التي كانت نتائجها محسومة قبل بدءها بحكم موازين القوى الدولية التي اعقبت الحرب العالمية الثانية، و ذلك لا يبخس في شيئ عظمة التضحيات التي قدمها الجزائريون خلال الحرب.
بالنسبة للفوضى الحالية، فهي نتيجة طبيعية لتغير المعطيات و التحديات التي صارت تواجه امريكا، الوصي الفعلي على معظم الانظمة العربية القائمة قبل بداية الفوضى. حيث ان نهاية الحرب الباردة، والتخلف التنموي لمعظم البلدان العربية و بروز ايران المدعومة من روسيا و الصين كتحدي لا يستهان به للهيمنة الامريكية على المنطقة، دفع امريكا للتخلص من العبء التي صارت تمثله هذه الانظمة، عبر ربيع اوباما العربي، على امل خفض تكلفة مواجهة التحديات الناتجة عن فشل حرب العراق. و قد كان هدف ربيع اوباما العربي في الدول التابعة اصلا للنفوذ الامريكي كمصر و تونس و المغرب اعادة تشكيل الانظمة عبر دمج عناصر معارضة لها تعاطف في الشارع العربي تم تدجينها امريكيا من اجل خلق ظروف تعددية سياسية لا تتطاول على مصالح امريكا و تخفف من حدة السخط و التدمر و الاحتقان في هذه الدول. و ادت محاولة الجمع بين الاطراف المدمجة حديثا و الاطراف التي كانت في السلطة ، و عدم قبول كل طرف بالطرف الاخر الى فشل ربيع اوباما في مصر مع انعكاسات سلبية لذلك على تونس و المغرب.
اما في سوريا، فمواجهة روسيا و ايران للمخطط الامريكي ادت الى حرب دمرت سوريا و هيات الارضية لتغيير الوضع الجيوسياسي للمنطقة.
مقال جميل.