الأموات

حجم الخط
0

مرت طائرة نفاثة بين الغيوم. كنت في الحديقة أغتنم الفرصة للحصول على حمام شمسي قبل رحيل الصيف وانطفاء الشمس. وتذكرت الأحبة الذين سبقوني في الصعود لفوق. هناك أمي، وخطيبتي اختطفها الموت في حادث سير مروع.
لكن لست متأكدا حيال الوالد. فهو عنيد. مات غرقا. ولست متأكدا هل الغرقى يصعدون أم يهبطون. هل تذهب أرواحهم إلى السماء أو تذوب في المياه وتضيع بين الأمواج والأسماك وأصداف البحر.
اتصلت برقم الخطيبة، فقد أرسلت لي رقمها في أحد الأحلام. لا يمر يوم ولا نلتقي في حلم رومانسي شفاف. بكلمة بليغة: رقيق. حلم رقيق. لكن لم ترد، فاتصلت برقم الوالدة.
أيضا أرسلته لي لكن بطريقة حضارية، جاء طيفها وقرع الباب وسلمني منها رسالة.
سألته: هل أنت ساعي البريد الجديد؟
ضحك، بالأحرى ابتسم ابتسامة مرة وقال: بل أنا رسول من هناك..
وأشار بيده للغيوم.
كانت في تلك الساعة منتفخة، تسبح في كبد السماء كأنها حيوانات قتيلة.
يا حرام.
لو رأيتها ببطونها البنفسجية المشوبة بالبياض لشعرت بالحزن فورا.
لحسن الحظ أنها ردت.
قلت لها: هالو أمي.
قالت: كيف فعلتها؟
فعلت ماذا؟
الاتصال
تنهدت ولم أعرف ماذا أقول. فأنا مقصر. انتابني الإحراج. وانكمشت مع قبضة الهاتف. كان حريا بي أن أشعر بالارتباك والخجل. فقد كنا نخرج من طور البلادة البشرية وندخل في طور التسامح الملائكي.
قلت لها: دعينا من العتاب. كيف أحوالك؟
قالت: يا كذاب. اتصلت بسعيدة ثلاث مرات ولم أسمع صوتك ولو مرة.
سعيدة هو الاسم الحركي لخطيبتي. في العالم الآخر تتبدل الأسماء. كان اسمها في هذه الحياة هيلينا.
قلت لها: والله أنت في الذهن. لكن كنت أنتظر الفرصة.
وسمعت صوتها ينوح، ثم بدأت تعوي في بوق الهاتف. وقالت: يا جاحد. يا منافق. سعيدة بخير. لكن أنا من تأكلها نار الشك.. كانت تشير لمصير الوالد. فلا جثمانه رقد في ضريح. ولا روحه تعرج في أحد الأبراج المعروفة. أخبرتني في إحدى الرسائل إنها بحثت عنه في كل المديريات في السماء ولم تجد له أثرا. كأنه ضباب وتبخر. شعرت بالغصة. أين يمكننا أن نبحث عن غريق، ربما أكلته الأسماك، أو سحبه أخطبوط إلى حفرة في المحيط. المحيطات عالم تضيع فيها حتى الملائكة.
قلت لها: لا زلت أحاول يا أمي.. كتبت رسالة إلى…
ولم تدعني أكمل.
قالت: كتبت؟
ورنت ضحكة عصابية في البوق نسفت دماغي.
ثم أضافت: وزير الأموات السابق معنا. تصور أنه لا يقرأ ولا يكتب، حتى كلامه بلغة ركيكة.
فاجأتني هذه المعلومات، لم أسمع بموته.
قاطعتها: ومتى مات؟ هل مات فعلا؟
حمل جثته متسول وألقاها في الوادي..
ألقاها في الوادي؟
وادي العذاب لأنه مقصر بواجباته
لم تكن عندي فكرة مفصلة عن جغرافيا الأموات
لذلك سألتها: وما هذا الوادي بالضبط؟
قالت: لماذا تهتم به. متى أصبح لديك حب الفضول؟
ما هذا الكلام يا أمي؟ أنا مهتم بك على الأقل، كيف أحوالك وأحوال سعيدة؟
أغرقت بالضحك وقالت: أنت تريد أن تسأل عنها فقط.
هذا غير صحيح يا أمي..
ولكن إسمع…
وبدأت أنفاسها تلفح أذني عبر الأسلاك. ثم قالت بشماتة: سعدية ارتبطت بغيرك يا مغفل.
لم أستطع التماسك، وبدأت أقرّعها بالهاتف: أنت تغارين منها يا أمي، كنت دائما تريدين لي غيرها. هذه نميمة واغتيال للسمعة.
أطبق الصمت على الأسلاك، وخيل لي أن الاتصال انقطع.
فقلت لها: ألو. أمي. ألو…
بدلت من لهجتها وقالت: معك على الخط، أنا أسمعك
ولم أجد بدا من تبديل اللهجة والموضوع. فسألتها: كيف الجو لديكم؟
حاولت أن تبدو متماسكة فقالت: الجو؟
وبعد تفكير أضافت: حار. نوافذ بيوتنا مفتوحة على وادي الأخطاء. وألسنة النار هناك سليطة. هل تعرف معنى النار السليطة؟
كان التعبير مجازيا. أوسع من مداركي.
فقلت لها: أحاول أن أتخيل الصورة..
لون الجدران قرمزي. السقف بلون غروب الشمس. هؤلاء الأشقياء يفسدون كل شيء، حتى في السماء.
ولكن ألا توجد وسائل تبريد؟
وفكرت بكلمة أفضل.
ثم بعد جهد قلت: أقصد وسائل استجمام.
وهي تبتسم. أنا أعرف لهجة الوالدة حين تبتسم. قالت: نعم. لدينا شلالات ومساقط مياه مثلجة… ثم أطلقت ضحكة رنانة، وأضافت: هل تعلم أن العذاب والسعادة هنا شيء نفسي.
لم أفهم، ولكن لم أحاول السؤال. فقد كان موقفي معقدا. والتزمت الصمت. فقالت تلقائيا: لا يوجد لدينا خمس حواس، بل حاسة واحدة هي الوجدان لو أنه…
قاطعتها بالسؤال: عفوا هل تقصدين الضمير؟
كلا أبدا.
وفكرت قليلا ثم قالت: لو ارتكبت ذنبا وبررته لنفسك لن تعاني من العذاب.
هذا اكتشاف عجيب.
الموت كله عجائب.
سألتها بحرج بالغ: ولماذا تعذبك النار إذن؟
دخلت في نوبة خجل لم أجد تفسيرا له، لكنني شعرت بارتباكها
ثم قالت: أدفع كفارة لبعض الأخطاء.
أخطاء. مثل ماذا؟
وقبل أن ترد سمعت نقرات على الباب، استأذنتها لأجيب على الطارق، تركت بوق الهاتف على ترابيزة في زاوية الغرفة. كانت ترابيزة مستديرة. تامة الاستدارة. بشكل حلقة مغلقة. مثل روح المتصوف حين يتصل مع نفسه، أو يذوب في الهيام والوجد. وحينما فتحت الباب، شاهدت الطيف نفسه. ابتسم عن أسنان براقة وقال: رسالة مسجلة يا سيدي.
تفحصته بنظرة نفاذة. لا يمكن أن تصف طيفا. فهو بلا كتلة. ولكن تخيلت أنه هيكل من الأثير أو الضباب، ويحمل جعبة على ظهره فيها رسائل الأموات.
سألته: هل هي من سعدية؟
قال: ومن هي سعدية؟ أنا رسول منها..
وأشار بيده إلى السماء وأضاف بمنتهى الإيجاز: ومنها فقط..
وغرقت بالدهشة. فعلا لا يمكنك تفسير تصرفات ميت. لم أحسن تفسير لمن تعود هذه الإشارة، مع ذلك استلمت الظرف. تخيلت أنني أحمله بيدي. وتخيلت أنني أفتحه لأطلع على الرسالة. فكل ما يأتي منهم خيال. ليس له وجود على أرض الواقع. وتساءلت في سري: ترى ماذا يوجد في هذه الرسالة؟
٭ كاتب سوري

الأموات

صالح الرزوق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية