بأيّ حقّ يُدعى الأدب العربي الحديث أدبا ناشئا؟
هذا سؤال كان قد طرحه المستعرب هاملتون جيب منذ النصف الأوّل من القرن الماضي. وربّما لا وجه له في تقدير كثير منّا، فللأدب العربي تاريخ يمتدّ على مدى أربعة عشر قرنا أو أكثر، وهو من أطول الآداب العالميّة، بل هو أطول من أيّة فترة تستطيع أيّة لغة أوروبيّة أن تفخر بها؛ كما يقول جيب نفسه. ولكنّ هذا مظهر خارجيّ خادع، فقد أخذت العربيّة تبرح منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مداراتها المألوفة، وبدأ الأدب يقطع صلته بتراثه؛ لينخرط في اتجاهات ومدارس غربيّة وافدة من رومانسيّة ورمزيّة وسرياليّة وواقعيّة وتصويريّة… ويتّسع لأجناس من الكتابة، حديثة مثل الرواية والمسرحيّة.
صحيح أنّ الأدب ينتسب إلى اللغة والأمّة أو الشعب، وليس إلى الجغرافيا. ولكن أيّة لغة؟ أيّة أمّة؟ أيّ شعب؟ نكاد نسلّم بأنّ الخاصيّة الأساسيّة لأيّ موضوع، تكمن في كونه قابلا بالضرورة لجدليّة الإخفاء والاستحضار. فليس الموضوع موضوعا إلاّ إذا استغرقته لحظة انفصال وتخارج عن الذات الواعية. بيْد أنّ صلة اللغة بنا، هي على نحو ما صلة المرء بجسده الخاصّ، لا يسعه أن ينفصل عنه أو أن يتنصّل منه؛ وهو يحدّث عنه أو يفكّر فيه. فهما في سياق من «التحاضر» أبدا. وليس ثمّة خطاب بما في ذلك الخطاب العلمي الدقيق، لا يأخذه تخييل فكرة أو صورة، أو لا يستأثر به توضيب استعارة أو مجاز، أو لا يستهويه التقاط كناية أو تشبيه؛ إلى الحدّ الذي يتعطّل فيه استجلاء «الحقيقة» في «صفائها» و»نقائها» المفترضيْن. ذلك أنّ «الحقيقة» نشأت بالطبيعة، من حيث هي حشْد من الاستعارات والكنايات وضروب تشبيه الأشياء بالإنسان أي بجسده.
اللغة أداة الشعر والأدب والعلم ، صورة «الأمّة». ولعلّ جوهان غوتيفريد هيردر هو الذي عدّل الاستراتيجيّات الأدبيّة، على أساس من تعريفه الأمّة واللغة والأدب والشعب، من حيث هي في نظريّته مرادفات، يمكن أن ينوب بعضها بعضا. وهو ما أتاح للأوروبيّين جمع تراثهم الشعبي وإعادة تصنيفه: روايات وقصص وقصائد وأساطير شعبيّة ومسرح قومي أو شعبي. وهيردر يسمّي كلّ ذلك «حكاية اللغات». وهذه تسمية مجازية، ولكنّها قد تكون أنمّ وأدلّ على ما نحن فيه من أمر العربيّة التي هي أقرب ما تكون إلى صورة «الرواية النهر» التي تستعرض حياة أسرة بأجيالها، وما يتخلّلها من سرد المغامرات ودراسة الأخلاق والطبائع وتحليل العواطف والمشاعر.
على أنّ مفردة «الأمّة» في لسان العرب، على ذيوعها وانتشارها يكتنفها الخفاء ويحفّها الغموض. فـ»الإمّة» ـ بالكسرـ الحالة والشرعة والدين والنعمة والهيئة والشأن والسُّنَّة والطريقة… وبالضمّ «الأُمّة» هي الرجل الجامع للخير والإمام وجماعة أُرسل إليهم رسول والجيل من كلّ حيّ، والجنس والقوم والخلق… ويقال للأمّ: الأمّة والأمّة…
فـ»الأمّة» بنية إيديولوجيّة أو سياسيّة، أكثر منها حقيقة ملموسة. وأصلها الاشتقاقي في اللاتينيّة، على صلة بمفهوم الولادة كما هو الشأن في العربيّة. ولذا كانت فكرة الأمّة تحيل في العصر الوسيط إلى القوم الذين ينتمون إلى أصل واحد أو عرق واحد.
أمّا في الأزمنة الحديثة فقد عصف مفهوم الأمّة بكلّ ما هو إثنيّ أو قبليّ، وأصبح مصدره مجموعا معقّدا من العلاقات التي تتضافر في صياغة شعور بالانتماء الجماعيّ وإرادة العيش معا؛ حتى صار من المتعذّر في كثير أو قليل من الحالات، حدّ الأمّة في عناصر بعينها مثل الأرض والعرق واللغة والدين والثقافة والدولة طبعا. وقد لا يخفى أنّ المفهوم بهذا المعنى، يتخارج عن الأفراد، بذات القدر الذي يداخلهم فيه.
والتداخل شأنه شأن التخارج، ممّا يضع العلاقة بين اللغة والأدب والأمّة على حافّة إشكال، وربّما في قلب مفارقة؛ بما يسوق إلى القول إنّها علاقة تُقلَّب على أجناب عدّة. بَيْد أنّ هذا المقال، يكتفي بترشيح قليل منها للإثارة فحسب.
ناقد تونسي
منصف الوهايبي
سلمت يداك
الحقيقة تبقي مؤلمة أحيانا . الأمة نظام سياسي بإمتياز أيا كانت المسميات أو التسميات . هل مساحة هذة الأمة تساوى الأرض كلها ؟ ولما لا ؟ فلنجرب حتي نتوقف ونتعلم ونحاول من جديد .