ترى الأنثروبولوجيا الألسنية أن اللغة قد تكون هي الأداة الأقوى والأكثر مرونة من بين تلك الآليات التي ابتكرها الإنسان. ذلك أن إحدى قدراتها باتت تكمن في استطاعتها التفكير والتعبير عن التحولات القيمية والسياسية في العالم، حيث يمكن لها أن تسمح للمتكلمين بها أن يتلفظوا بما تصنعه الكلمات في حياتهم اليومية، على مستوى التصور والتفكير بالوقائع، وتعطينا في الوقت نفسه وسائل لتبادل الأفكار مع الآخرين. كما أخذت تعتبر أن العبارات اللغوية لا تقتصر على تصوير الواقع الخارجي، بل تنتمي إلى هذا الواقع نفسه، بحيث تسمح لنا أن نتعلم الكثير عن مجتمعنا، وتجهزنا بطرق بديلة في علاقتنا مع الأشياء والناس والسلطة.
وقد أخذت هذه الرؤية الجديدة للغة ترى أن أول الشروط ليكون الباحث إثنوغرافيا ألسنيا هو أن تكون لديه الآلية التي تسمح له أن يستمع بعناية إلى ما يقوله الناس عندما يجتمعون معا، وأن يتعلم كيفية فهم الناس الذين يتحدثون مع بعضهم بعضا، وما الذي يعتبرونه ذا أهمية بالنسبة إليهم.
في هذا السياق، نجد أن الألسني والأستاذ الجامعي في الجامعة اللبنانية نادر سراج، أخذ يعمل ومنذ سنوات عديدة على الإنصات وتقديم حرتقات جديدة للتحولات اليومية التي أخذ يشهدها الفضاء الاجتماعي العربي، عبر تركيزه على مدخل الأنثروبولوجيا الألسنية الذي ينظر إلى كلام الناس اليومي بوصفه يعبر عن رسائل رمزية تدخل في مكونات المجتمع وفي تصورات الأفراد حيال العالم.
الأمر الذي بات يعني الاعتماد على اللسان اليومي كمدخل لدراسة بعض القضايا والمواضيع التي هي في قلب الأبحاث الأنثروبولوجية كمسائل التمثيل، وتكوين السلطة وتشريع القوى، ومسائل استهلاك الفن، والعلاقات الثقافية والتغيير الاجتماعي.
ومن هنا أخذ سراج يسمح لنا أن نتحسس من خلال الكتب التي صدرت له في السنوات الأخيرة، كيف يمكن للكلام أن ينتج عملا اجتماعيا، وهو ما عبر عنه مثلا من خلال كتابه «الشباب ولغة العصر/دراسة لسانية اجتماعية»، الحائز جائزة مؤسسة الفكر العربي لأهم كتاب عربي لعام 2013، الذي سعى من خلاله إلى مقاربة ألفاظ الحياة العصرية داخل المشهد اللغوي اللبناني، وذلك لإماطة اللثام عن الديناميات الاجتماعية الجديدة داخل بعض أحياء بيروت (عائشة بكار، والأشرفية).
مؤخرا، وفي إطار اهتمامات المعهد الألماني للأبحاث الشرقية في بيروت بمتابعة التحولات الاجتماعية الثقافية التي واكبت الانتفاضات الشعبية في بلدان الربيع العربي، خاصة في وجوهها التعبيرية واللغوية، دعم المعهد مشروعا بحثيا ضخما كان قد تقدم به الألسني سراج نفسه تحت عنوان «مقاربة لسانية للشعارات السياسية في العالم العربي: مصر أنموذجا»، في مسعى منه إلى مقاربة الشعار السياسي ـ مهتوفا ومكتوبا أو متناقلا عبر وسائل التواصل الحديثة ـ ليس بوصفه مجرد تلفظ لغوي ناقل لرسالة معينة (سياسية، اجتماعية، دينية)، بل بوصفه فعلا سياسيا تغييريا، مكن منتجيه الحقيقيين، أي الفاعلين الاجتماعيين، من إنجاز أفعال ملموسة على أرض الواقع، كما ساهم في تشكيل وعي جديد في صفوف الجمهور المنتفض، منتجا كان أم مستهلكا أم مروجا.
وقد اعتمدت الدراسة التي نفذها الباحث مع فريق عمل لبناني ـ مصري، مؤلف من خمسة باحثين مساعدين، في 12 شهرا (من آذار /مارس 2012 إلى مارس 2013)، على مدونة من 1700 شعار شكلت «قاعدة المعلومات» واشتملت على ثلاثة أقسام: يتناول الأول التراكيب واستخدام الضمائر، ويعالج الثاني قضايا البلاغة من خبر وإنشاء وخروج اللفظ عن مقتضى الظاهر، ويتطرق الثالث إلى الدراسة السيميائية لرموز المظهر والملبس والمأكل وغيرها.
والجدير ذكره هنا، أن هذه الدراسة الصادرة عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، قد حظيت باهتمام واسع فور صدورها، بيد أن معظم القراءات بقيت تركز على الأقسام الأولى من الدراسة متناسية أهمية القسم الثالث من هذه الدراسة، ما دعانا إلى الاهتمام به بشكل خاص، خاصة أننا في مقالات سابقة كنا قد تطرقنا إلى أنثروبولوجيا الطعام واللباس داخل الحياة اليومية للشرق الأوسط لفترة ما قبل اندلاع الربيع العربي.
عيش (خبز) وكنتاكي:
يرى سراج أنه كي نفهم أكثر أبعاد حضور شيفرة المأكل في الشعارات، وتداولها بين الجمهور بذكاء لماح وظرف وسخرية لاذعة، علينا أن نتذكر أن اصطلاحات الشيفرات في السيميائية تمثل بعدا اجتماعيا. فالشيفرة في نهاية المطاف تمثل مجموعة من الممارسات التي يألفها مستخدمو وسيلة الاتصال التي تعمل ضمن إطار ثقافي واسع.
وبالعودة إلى موضوع الشعارات نلاحظ أن الصورة المجازية للطعام رصدت في العديد من الشعارات الأولى للثورة المصرية. كما كان للعلامات غير اللغوية، أو تلك المصاحبة من رموز وما شابه، حضورها، سواء في مسألة توظيف «الخبز» للتعبير عن تردي الأوضاع المعيشية، أو في معرض الرد على الحملة الإعلامية الرسمية المغرضة بخصوص توزيع وجبات «كنتاكي» مجانية على معتصمي التحرير. فقد رفع كيس «عيش» مصري فوق شجرة ودونت عليه جملة «هنا مركز توزيع كنتاكي»، كما رفعت لافتة تضمنت رغيف خبز وعلبة جبن فرنسية كتب فيها «هو ده كنتاكي بتاعنا».
فالذكاء الاجتماعي لهذا المتظاهر جعله يقابل العيش «المصري المنشأ» بوجبة «كنتاكي» الجاهزة والأمريكية المنشأ. وحمل مواطن صعيدي بيمناه لافتة كتب عليها «محافظة المنيا تطلب تغيير رأس الفساد» وبيسراه قطعة خبز للدلالة على كذب إشاعات توزيع وجبات كنتاكي عبر التلفزيون المصري. وحمل متظاهر آخر رغيف خبز ثبت عليه لافتة حملت شعار «كنتاكي التحرير»، هو الاسم المستحدث في الميدان للخبز.
وبحسب الباحث فالعلامة السيميائية الدالة على «العيش الفلاحي» كانت أبلغ حجة نسلها المتظاهرون من قاموسهم الشعبي، ورفعوها لتكذيب مقولات الإعلام الرسمي. استتباعا للصورة الجازية للخبز. كما أن أدراج وجبة «كنتاكي» الجاهزة في المجال السياسي عموما، وفي متن الشعارات تحديدا، يتمثل في التذكير بأهمية أكلة «الكشري» الشعبية المصرية التي تباع في القاهرة، حيث يدخل في تكوين الكشري الأرز والمعكرونة إضافة إلى «عدس زيادة وشطة زيادة»، كما جاء في شعار يستهزئ بالحملة التي شنها الإعلام المصري بشراسة على شباب الثورة المعتصمين في ميدان التحرير. التهمة الملفقة لكل معتصم أنه يحصل يوميا مقابل اشتراكه في الاعتصام على مكتسبات ثلاثة: «أجندة»، ومبلغ 50 دولارا أمريكيا، ووجبة كنتاكي جاهزة. وهي عناصر ثلاثة تغذي في آن البطن والجيب والعقل، في حال اعتبرنا «الأجندة» من مستلزمات الدراسة والعلم وما إليهما.
ذقون وجلاليب… قراءة سيميائية في ثقافة المظهر الخارجي:
ويلاحظ الكاتب في جانب آخر أن المجال الثقافي معروف بوفرة الشيفرات الاجتماعية التي تحدد التفارق الاجتماعي. فنحن، وفق رأيه، نعبر عن هوياتنا الاجتماعية من خلال ما نقوم به من أعمال، وطريقتنا في التكلم، وما نلبسه من ثياب، وتصفيفنا لشعرنا وعاداتنا في المأكل …. الخ. ويخلص إلى القول إن الاستخدام اللغوي هو الواسم الأساسي للهوية الاجتماعية. في هذا السياق، نجد أنه لم تنشأ الاستعارات السياسية من عالم الملبوسات التي زينت الشعارات من فراغ تعبيري، فأطراف الصراع السياسي على اطلاع كاف عليها وعلى مدلولاتها وعلى التداعيات التي تعكسها دلالاتها السيمائية في أذهان مستخدميها.
من هنا فلا عجب أن يؤتى في متن الشعارات إلى ذكر الجلابية في استشهادين، الأول في هتاف ردد بعد الاستفتاء (19/3/2011) وفيه ذكر الجلابية. أما الثاني فلدى التعليق على «الرجل أبو جلابية» الذي جرى على أرض ملعب القاهرة بطريقة عشوائية خلال مباراة رياضية، ووجهت اليه الأنظار والكاميرات خلال الشغب، وتحول سريعا إلى شخصية مشهورة، وبات نموذجا للتندر والتساؤل الساخر. وللتذكير فـ»الجلابية» هي اللباس المصري التقليدي الذي يعد واحدا من عناصر ثقافة الملبس الوطنية، لذا، فلا عجب أن غيابه أو تغييبه في الأهزوجة السياسية التالية التي رددت بعد الاستفتاء «هم حاجة واحنا حاجة.. هم باعوا البندقية… والوطن والجلابية»، تعد علامة سيميائية دالة تتخذ قيمتها في المنظومة اللسانية – وهنا الشعاراتية المصرية – مما لا تكونه أو بالأحرى مما ينفي حضورها (وهنا الاستغناء عنها أو بيعها بالمعنى المجازي) هو ضمن مكونات المنظومة الوطنية الثلاثية المتمثلة بالوطن والبندقية والجلابية.
كما أن توظيف ثقافة الملبس- بحسب سراج- لم يقف عند حدود ثورة يناير/كانون الثاني. فقد رأينا لاحقا أن هذه الثقافة استعادت بعض مكوناتها، وتحديدا «الملابس القطنية»، ففي تعليق ساخر على «اقتراح هشام قنديل رئيس الوزراء المبهر للمصريين بأن يرتدوا الملابس، ويتجمعوا في غرفة واحدة ترشيدا للكهرباء (برنامج المئة يوم الذي اقترحه مرسي) حتى انتشرت الفكرة انتشار النار في الهشيم الإلكتروني وما لبثت التعليقات الساخرة أن انتشرت كالعادة، وواحد منها على شكل حملة تدعو المصريين إلى «بيعوا تكييفاتكم وارتدوا حملاتكم (الملابس الداخلية)». وليس بعيدا عنها الكلام عن «يا إعلام أبو حمالات انتو فسادكم غطى وزاد»، في إشارة إلى الإعلامي إبراهيم عيسى الذي يشتهر بارتدائه الحمالات.
كاتب سوري
محمد تركي الربيعو