يهدف منتج أي خطاب، وهو يتواصل مع الآخر، إلى التأثير فيه. لا فرق في ذلك بين خطاب يتوسل باللغة أو بأي علامة أخرى. حتى الطفل، حين يبكي، أو يضحك، يرمي من وراء هذا التأثير تحقيق رغبة ما. ولا يشذ الإشهار (الإعلان»، باعتباره خطابا، عن هذه القاعدة. فإذا كان الخطاب يهدف إلى الإقناع أو الإفحام لتغيير سلوك، أو الاقتناع بفكرة، كان الإشهار يسعى إلى ترويج بضاعة. وحين يكون التنافس قويا بين المروجين، يلعب الإشهار دورا خطيرا في التأثير على المتلقي. لكن خطورة الإشهار، تتعدى دور الترويج لبضاعة لبيعها، إلى التأثير في السلوك، وتغيير العادات والثقافات. ولما كان الإشهار يحتل مكانة خاصة، في العصر الذي نعيش فيه، مقارنة مع غيره من الخطابات، وجدناه بات يحدد أنماط الحياة. ولعل أهم ما يميزه، مانحا إياه هذه الخصوصية، هو أنه يتوجه إلى كل الناس، وكل الشرائح الاجتماعية، وهو يخاطبهم متعاليا على الزمان والمكان.
حين نتحدث عن الإشهار، لا بد من التمييز بين «الإشهار الوسائطي» الذي يستغل الوسائط المختلفة، بل إنه يخلق له «اللوحة» التي تملأ الساحات العمومية، وبين الإشهار الشفاهي، أو الشعبي. في الأسواق الشعبية، تجد الباعة في المساء ينادون على بضائعهم، وقد أنزلوا أثمنتها، وكل يتفنن في خلق شعار بضاعته، وهو «يغني» لها، بل وقد يصل التنافس إلى حد التقاذف بين البائعين بمكاييلهم. ومن عجب، أن صاحب البضاعة الجيدة، والغالية الثمن، لا ينادي عليها، معتبرا أن الزبون المؤهل لشراء بضاعته، ليس في حاجة إلى خطاب، فالبضاعة ـ الخطاب.
لكن نوعا آخر من الإشهار «غير المباشر»، يتم بطريقة لا توحي بأنه إشهار، بل هو تعبير عن «سمة» حيث تعمل كل شركة على وسم بضاعتها بطابعها. لكن هذه السمة تتحول إلى «أسطورة» (رولان بارت) لأنها تصبح تمتلك الدلالة على الرفاه والتميز، ويغدو كل من يحملها على جسده، أو آثارها (الرائحة) دالا على الشخصية. حين تتحول «السمة» إلى «زينة»، يتغير سلوك المرء، فيصبح مالكها مختلفا عمن يحلم بامتلاكها. نرى بعضا من ذلك، في سلوك الأطفال، حيث يغدو امتلاكهم حذاء أو لباسا رياضيا يحمل سمة معينة، دالا من خلال ثمنه، على ما يريد الطفل أن يكونه.
نريد من تشديدنا على السمة ـ الزينة، الإشارة إلى ما صار يكتب على اللباس، من تعابير إنكليزية، لا تفقه أحيانا معانيها من تضعه على جسدها، ولو عرفت لشعرت بالإحراج الشديد. والشيء نفسه، أتعجب حين أرى شابا مغربيا يضع على رأسه قلنسوة مكتوب عليها «أحب نيويورك»؟ ماذا تعني بالنسبة للعربي عبارة «أحب نيويورك؟ وأمثالها من التعابير الموجزة أو المسهبة التي نراها على أجساد الفتيات؟ صارت لمعظم أطفالنا، إن لم نقل كلهم، رموزهم الرياضية لأسماء للاعبين دوليين في الغرب؟ ما معنى أن يحمل المرء على صدره «علامة تجارية» ما؟ أليس هذا تلوثا فنيا؟ كيف يمكن أن تكون لجيل «تابع» للإشهار شخصيته المستقلة؟
متابعة هذا الموضوع ورصد ظواهره وعلاماته جدير بأن يكون أطروحة جامعية. وما يمكنني أن أستنتجه من بعض هذه الأمثلة أن هذا ليس سوى تعبير عن تلوث ثقافي. يقول مثل مغربي: «كل بشهوتك، والبس بشهوة الناس». أرى في هذا المثل تعبيرا عن ثقافة مجتمعية. وكلما أصابت اللباس الهجانة والرداءة كان تعبيرا عن تلوث ثقافي اجتماعي.
يورد أبو الطيب الوشاء (بداية القرن الرابع الهجري) في كتابه «الموشى»، وهو كتاب يتناول حياة الظرفاء والمتظرفات في عز الحضارة الإسلامية، صورا طريفة عن «لباس» هؤلاء وأولئك، وما كان يكتبونه عليها من أبيات شعرية راقية في فصول جاءت تحت عناوين: «ما وجد على ذيول الأقمصة وطرز الأردية والأكمام والكرزان والعصائب ومشاد الطرر والذوائب، والمناديل، والستور والوسائد والنعال، وما يكتب بالحناء وعلى القناني والكاسات». وحين نقرأ ما جاء في تلك الفصول نجد حسا حضاريا وثقافيا رهيفا وجميلا، أين منه القبح الذي يخدش الأعين في زماننا؟ وفي ثقافتنا الشعبية، أتذكر كيف كانت تصنع الطواقي يدويا وتكتب عليها عبارات لطيفة تدل على إحساس الفرد، وهو ينتمي إلى جماعة.
لتنافس الإشهارات الوسائطية، وممارستها حربها اليومية، لأنها تتجدد باستمرار، دور خطير جعل لها سلطة على المجتمع تفوق سلطة الخطاب السياسي والديني. إنها سلطة «الصراع الخفي»، وهو بديل عن «الصراع الطبقي» الذي نُظّر له في القرن التاسع عشر.
في غياب الحصانة الثقافية، والوعي بالاستهلاك، لا يمكن للإشهار إلا أن يكون ملوثا. وهنا يكمن الدور الحقيقي للمجتمع المدني لممارسة «الثقافة الاجتماعية»، وللمثقف في نشر قيم الجمال. إن الفضاءات التي تملؤها هذه اللوحات لماذا لا تستغل لعرض صور للوحات حقيقية لفنانين تشكيليين، أو لخطاطين، أو تتضمن أقوالا شعرية، أو أمثالا ، أو أقوالا مأثورة تساهم في تنمية وعي الناس، وتذكيرهم بالارتقاء بسلوكهم. إن الرادارات التي تكلف الدولة ميزانيات، يمكن تعويضها بأقوال جميلة تؤثر في الناس وفي أخلاقهم، وهم يسوقون سياراتهم.
كاتب مغربي
سعيد يقطين
التجارة تجارة والثقافة ليست هي التجارة, لذلك صنعوا لهما وزارتين. البضائع التي لم يعد عليها الإقبال طبيعي أن تختفي من الأسواق وإلا ما أصبحت تجارة. العودة إلى الزمن الجميل مسألة نسبية , الطرز على الأقمصة إن كان بكثرة يكون متعبا مثله مثل البيوت المغربية التي تغطى جدرانها بالزليج ( كانت موضة ) في أغلب الأحيان يكون متعبا للعين وللتركيز. ليس كل ماكان جميلا ماضيا يبقى كذلك, الجمال في عين الناظر وعصره.
«كل بشهوتك، والبس بشهوة الناس» إلبس بشهوتك كذلك مع احترام الرأي العام وليس بشهوته. أما الرادارات, ليس فقط في المغرب, هناك فئات من مستعملي الطريق لايأبهون لشيء إسمه احترام القانون, قانون الغاب هو مايتبعوه, وهم في كل مكان, حتى في المجتمعات المتقدمة , لحسن الحظ ربما بصفة أقل. أما تعويضها بلوحات فنية أو أقوال شعرية تؤثر في الناس, فربما ليس في هذا العالم, قد تصلح في عوالم أخرى خارج كرتنا الأرضية. الحقيقة.
أعتقد أن المقال فيه خلل كبير في تحديد المفاهيم والتعامل معها، بين الإشهار، الإعلان والتسويق المباشر، وهي أنشطة اتصالية مختلفة تتكامل بينها في إطار إستراتيجية الاتصال المتكامل.