شاءت المصادفات أن تكون لي مع صحيفة «الإندبندنت» البريطانية ذكرى سعيدة، وأخرى حزينة؛ كلتاهما ارتبطت بوجودي في العاصمة البريطانية لندن: الأولى في أواخر حزيران (يونيو) 1993، حين انفردت الصحيفة بنشر الحلقة الأولى من سلسلة محاضرات ريث، التي ألقاها إدوارد سعيد (1935 ـ 2003) من إذاعة الـBBC؛ والثانية، الحزينة، كانت يوم السبت الماضي، حين صدر العدد الورقي الأخير من الصحيفة، التي سوف تواصل الصدور إلكترونياً فقط.
محاضرات ريث، كما هو معروف، سلسلة إذاعية سنوية عريقة وذائعة الصيت، كان قد أطلقها الفيلسوف البريطاني برتراند رسل سنة 1948، وتناوب عليها عدد من كبار مفكّري وكتّاب النصف الثاني من القرن العشرين. وقد ألقى سعيد ستّ محاضرات، حول موضوع «تمثيلات المثقف»، سوف تُنشر تباعاً في «الإندبندنت»، وستصدر بعدئذ سنة 1994 في كتاب صغير حمل العنوان ذاته (نقله غسان غصن إلى العربية، وصدر سنة 1996 عن دار النهار، بعنوان «صور المثقف»). عناوين المحاضرات سارت على النحو التالي: تمثيلات المثقف، لجم الأمم والتقاليد، المنفى الفكري: مغتربون وهامشيون، محترفون وهواة، قول الحقّ في وجه السلطة، وآلهة تفشل دائماً.
وعلى نحو ما، كانت تلك المحاضرات زبدة رأي سعيد في مفهوم، ثمّ وظائف ومهامّ ورسائل، المثقف في عصرنا الراهن؛ اعتماداً على قراءات سجالية في أفكار عدد منتخب من المثقفين، أمثال أنطونيو غرامشي وجوليان بيندا وميشيل فوكو وجورج أورويل وتيودور أدورنو وجان بول سارتر وناعوم شومسكي وسواهم. كبرى الخلاصات تشير إلى واجب المثقف في توطيد الحرية الإنسانية والمعرفة، وضرورة تمثيل قضية واضحة أمام الجمهور، وعدم الانسياق وراء التعميم واليقين المطلق؛ فضلاً عن سمات أخرى عديدة ناقشها بإسهاب، ومن خلال أمثلة ملموسة. غير أنّ صفة الانشقاق، ومستوياتها المتعددة، كانت مركزية في أطروحات تلك المحاضرات، فضلاً عن أنها لازمت سعيد طيلة حياته، وربما حتى قبل أن ينضج وعيه ويستقرّ.
طريف، في مشاغلة النفس عن الجانب الثاني المحزن وراء انطواء حقبة حافلة من تاريخ مطــــبوعة عريقــــة، أن يسوق المرء بعض ما شاء تحرير «الإندبندنت»، أن يذكّرنا به على صفحات العدد الورقي الأخير: أنها صدرت طيلة 29 سنة ونصــــف السنة تقريـــباً، وطبعت 10 مليارات كلمة، وعاصرت خمسة رؤساء وزارة بريطانيين، وخمسة رؤساء أمريكيين؛ وحين صدرت، في سنة 1986، كان الرقم صفر هو عدد البريطانيين على الفيسبوك، وهم اليوم 30 مليوناً؛ وكان متوسط سعر الشقة السكنية 55 ألف جنيه استرليني، وهو اليوم 551 ألف…
وفي الجانب المحزن، أيضاً، أن يتوقف امرؤ مثلي عند روبرت فيسك، أحد كبار كتّاب «الإندبندنت»؛ من زاوية باعثة على الأسف والأسى، في يقيني الشخصي دائماً. إذْ كيف أمكن لصحافي مخضرم مثله أن يكون البطل ذاته في موقفَين على طرفَي نقيض، مهنياً وأخلاقياً: فضح مسؤولية إسرائيل، وشمعون بيريس شخصياً، عن مجزرة ملجأ قانا في جنوب لبنان، في نيسان (أبريل) 2006؛ والتملص، أو «التفلسف» بالأحرى، حول مسؤولية النظام السوري عن المجزرة الكيميائية في الغوطة، أواخر آب (أغسطس) 2013؟ وكيف كانت تقاريره عن المجزرة الأولى بمثابة أدلة مادية فضحت وقائع المسؤولية الإسرائيلية، وكانت تقاريره عن المجزرة الثانية بمثابة استبعاد لمسؤولية نظام بشار الأسد وتبرئة لمجرمي الحرب؟ وإذا تفاخرت «الإندبندنت» بأنها عاصرت خمسة رؤساء أمريكيين، ففي وسع فيسك أن يضيف إحصائية أخرى يعرفها أفضل من أيّ زميل له: أنّ سوريا، على امتداد تاريخ الصحيفة، بل قبلها بـ16 سنة، لم تشهد سوى «رئيس» واحد كان «يُنتخب» بمعدّل 99.99 بالمئة؛ وحين وافته المنية جرى توريث ابنه، الذي «انتُخب» بنسبة 97.24 ٪، وما يزال يحكم بالحديد والنار والدمار!
قبلها سجّل فيسك سقطة مهنية لا تقلّ فداحة قادته، في مطلع الانتفاضة السورية، إلى المصادقة بحماس على ما يمكن أن يبوح به معتقل حاوره فيسك داخل المعتقل، أمام أحد ضبّاط استخبارات النظام السوري! وبعدها، في قضية اغتيال الطبيب البريطاني عباس خان، خرج فيسك بالنظرية ـ التحفة التالية: «هل كان أحدهم يحاول تخريب العلاقات، المتحسنة باطراد رغم أنها ما تزال مجمدة، بين الرئيس السوري وبريطانيا والولايات المتحدة؟ مَن الذي سيرغب في منع هذا التحسن؟ السعودية؟ بالطبع. قطر؟ قطعاً. إسرائيل؟ لِمَ لا؟».
وهكذا، وربما لأنها هكذا، جمعت «الإندبندنت» بين سعيد وفيسك، وسواهما العشرات، من حَمَلة المواقف والمواقف المضادة؛ وجاز، استطراداً، أن يحزن المرء لانطواء سجلّها الورقي العريق، الحافل بالنفيس والنقيض.
صبحي حديدي
السيد صبحي حديدي من المثقفين القلائل الذين أحترمهم (أنا النكرة) ولكنه بقع في ذات النمطية التي تميز المثقف العربي عندما يتبنى قضية بيقين مطلق. يمكن للجميع ان يوافق على غياب الديمقراطية وحرية الرأي في سوريا الاسد ولكن على الاقل كانت هناك سوريا. اتهام الاسد انه السبب الاول والاكثر تاثيرا في ما حدث من دمار لدولة عربية محورية ولاحرار الشعب السوري هو قفز على كل الحقاقئق التي لا تنفك تتجلى يوما بعد يوم. (لا لست مع الاسد.. انا مع سوريا)
أخي عبد الوهاب عندما يكون شعار شبيحة اللاسد هو “الاسد أو نحرق البلد” يصبح واضحا بلا أي غموض من هي هذه العصابة ومن الذي دمر سوريا واحرقها إنه نرن العصر
الأخ صبحي،
حقيقة، لم أرتح لكل ما كان يكتبه روبرت فيسك في صحيفة «الإندبندنت» البريطانية أو يقوله في مقبلاته التلفزيونية المفتعَلة عن قضايا الشرق الأوسط، عمومًا، وعن القضية السورية، خصوصًا، على الرغم من موقفه «النقدي» الطنان من السياسات الخارجية التعسُّفية التي يتبنَّاها الغرب الأوروبي والأمريكي إزاء هذا الشرق. إذ كان ولا يزال جلُّ حديثه، فيما يتعلق بالثورة الشعبية في سوريا، يدور دورانًا عُصابيًّا هُجاسيًّا حول المسألة الطائفية في إطارها الجغرافي السياسي المحض، وإلى درجة أن النظام الأسدي المافْيَوي الطائفي المجرم يبدو مبرَّأً أيَّما تبرئةٍ من كلِّ ما حصل ويحصل من دمارٍ واقتتالٍ طائفي دموي منذ بدايات هذه الثورة الشعبية وحتى هذا اليوم.
في مقاله الدالِّ رغم وُجوزهِ «ما قصة روبرت فيسك؟ ماذا يريد؟» الذي نُشر في صحيفة «الحياة» قبل أكثر من ثلاث سنوات ونصف، كتب ياسين الحاج صالح عن مغامرات هكذا صحافي «مُبرِّئ» مع هكذا نظام «مُبَرَّأ» ما يلي:
«ذهب روبرت فيسك برفقة قوات النظام السوري إلى داريا يوم قتل 245 من سكانها وفقه (حوالى 500 في الواقع). من قتلهم؟ «المتمردون»، وفق فيسك. نراهم في مقالته يقنصون الناس، ويقصفون بقذائف المدفعية القاعدة العسكرية الوادعة التي انطلق منها الصحافي البريطاني برفقة القوات المقتحمة، ويطلقون النار على السيارة العسكرية المصفحة التي كانت تقله مع ضباط في الجيش الأسدي. الفعل الوحيد الذي ينسبه فيسك إلى الجيش النظامي – غير الاضطرار إلى اقتحام البلدة بعد فشل عملية تبادل أسرى لم يسمع بها أحد في العالم غيره – هو الاستحمام في العراء تحت أشعة الشمس […].
ليس شيئًا عارضًا أنه ليس هناك ما هو تقدمي أو إنساني في هذه المقاربة المزدوجة التي تسقط المجتمع والاقتصاد والسكان والبيئة الطبيعية والطبقات والسياسة والأحزاب السياسية والتغير الاجتماعي والتاريخ، أي كل شيء تقريبًا. ولا ينبغي أن يكون أمرًا عارضاًا أن يؤول الأمر بفيسك صحافيًّا مصاحبًا embedded دبابات واحد من أشد نظم العالم وحشية، وهو يقتل محكوميه، أو أسوأ بألف مرة: يزور فروع استخبارات همجية، لينقل رواية لا سبيل لأحد في الدنيا إلى التيقن من صحة أي حرف منها».
(«الحياة» 8 أيلول 2012، «العربية» 9 أيلول 2012)
* مقبلاته التلفزيونية: مقابلاته التلفزيونية
** أمرًا عارضاًا: أمرًا عارضًا
أداوم على متابعة مقالاتك الرائعة. و لكني اليوم اريد ان اعلق على إشراقك و ووسامتك.
إلى عبد الوهاب الجزائر،
كلامك هذا يذكرني بما أدلاه الكاتب الجزائري خالد بن ققة في حلقة «هل انكسر الربيع العربي؟» من برنامج فيصل القاسم «الاتجاه المعاكس» (حلقة 2 شباط 2016). يقول خالد بن ققة، متَّهمًا الثورة الشعبية في سوريا ومبرِّئًا بشار الأسد المجرم، ما معناه:
«لم يكن ما يُسمى بالثورة الشعبية في سوريا إلا شتاءً دمويًّا وفتنة عامة. فا الذي أوصل سوريا إلى ما هي عليه ليس سوى هذه الثورة الشعبية. قبل هذه الثورة الشعبية، كانت سوريا تحت حكم حاكم واحد. وأما بعد هذه الثورة الشعبية، فأصبح من يحكم البلاد مجموعة سماسرة. إذن، بشار الأسد ليس هو الموضوع، بل الموضوع هو انهيار الدولة الوطنية وتقسيم البلاد. وحتى لو كانت كل شرور الدنيا في بشار الأسد ولكن ماذا قدمت الثورة الشعبية في سوريا طوال السنوات الخمس الماضية؟».
فلكي تتأكد بنفسك، يا عبد الوهاب، ما عليك سوى أن ترجع إلى ما قاله محمد هنيد ردًّا صريحًا وواضحًا على كل هذه المزاعم والادِّعاءات.
على فكرة، يا أخي صبحي،
نسيتُ أن أُلفت الانتباه، بهذه المناسبة، إلى أن ترجمة الاسم Representations بصيغة الجمع في عنوان كتاب إدوارد سعيد المعني Representations of the Intellectual إلى «تمثيلات» أو «صور» إنما توحي، في اللغة العربية على الأخص، بدلالة الفاعلية الخارجية (أي بوجود نيابة إنسانية أُخرى قامت بنقل هذه «التمثيلات» أو هذه «الصور» عن المثقَّف نيابةً عنه). في حين أن الدلالة المقصودة للاسم نفسه بصيغة الجمع كذلك في اللغة الإنكليزية هي دلالة الفاعلية الداخلية (أي أن النيابة الإنسانية التي قامت بنقل هذه «التمثيلات» أو هذه «الصور» عن المثقَّف هي نيابة المثقَّف نفسه). وعلى هذا الأساس، وإذا لم نخرج معجميًّا عن جذرَيْ هتين الكلمتين اللتين وقع عليهما الاختيار في اللغة العربية، فإن أقرب صيغة لتبيان دلالة الفاعلية الداخلية هذه إنما هي الصيغة الوزنية «تَفَعُّل» لكي يصبح عنوان الكتاب «تَمَثُّلات المثقَّف» أو « تَصَوُّرات المثقَّف»، وذلك تجنُّبًا لهذا الالتباس.
روبرت فيسك معروف بانه في صف طغيان الحكام المستبدين في بلاد العرب ويجد لهم مبررا سياسيا دوما بتحليل يعتمد على أسس لاتمت بصلة لمطالبة العرب بالحرية والعدالة
دعمه لحكم الطغيان الاسدي ( أباً وابنا) معروف فهو لايرى ثورة اوشعبا في سوريا يطلبان الحرية . يستنكر الانسان العربي هذا التحيز من صحفي ذي خبرة. ويرى ان موقف فيسك ومعاييره المغلوطة يحطان من قيمته كصحفي
كما ان الانسان قد يتساءل انه لابد ان لفيسك مصلحة في مثل هذا الموقف وستكشف الأيام هذه المصلحة
موقف فيسك من اسرائيل سابقا قد يكون بسبب مصلحة اخرى ولكن موقفه ضد شعب سوريا وانحيازه للطغيان الاسدي سيبقى تلوثا في سجله الصحفي لايمكن ان يمحى
يا أخ أسامة،
هؤلاء «المثقفون» الغربيون، من أمثال الأستاذ الجامعي الذي تقصده، ليسوا يساريين بالمعنى الاشتراكي العلمي للكلمة، بل «يساريين» بالمعنى الديمقراطي الاجتماعي تحديدًا. فآراء هؤلاء «المثقفين اليساريين»، إذن، تتغيَّر بتغيُّر المصالح العامة (وخصوصًا المصالح الاقتصادية) في أيِّ بلد يحدث فيه أي نوع من التغيير الثوري الاجتماعي. ولا يعترفون بهذا التغيير الثوري، على الإطلاق، ما دام لا يتوافق مع تطلعاتهم المادية المحضة إلى الثروة، أولاً وآخرًا.
وعلى فكرة، في منطقة الشرق الأوسط وحدها، فإن نظام الكيان الصهيوني من هذا النموذج الديمقراطي الاجتماعي بنحو أو بآخر!!!
عزيزي أسامة،
«اليساري» بالمعنى الديمقراطي الاجتماعي، كما نوَّهتُ عنه، لا يختلف من حيث الجوهر عن اليميني بالمعنى المتعارف عليه. وفي كثير من الأحيان، الأول أسوأ بكثير من الأخير: على الأقل اليميني معروف بأنه يميني على المكشوف، في حين أن هذا «اليساري» يميني، بل أكثر يمينيةً على المستور!!!
الثورة السورية أبتدأت شعبية عارمة لكن بعد فترة قصيرة تحولة الى تعسفية. أن لم تكن معنا فأنت أما شبيحة أو ضدنا. وبالطبع التدخلات الاقليمية هو من أفشلها وحرف مسارها… وللأسف الان هذا هو الحال البائس والمأساوي المرعب التي وصلت اليه وقد تستمر
“أن لم تكن معنا فأنت أما شبيحة أو ضدنا” صدقا يا أخي ليس صحيحا لكن صحيح ” التدخلات الاقليمية هو من أفشلها وحرف مسارها” ومع ذلم مازالت المسيرات الشعبية تحتفظ بأصالتها إلا أن النظام مازال مستمرا ومصرا على قمع الثورة بالرصاص
روبرت فيسك هو الصحفي الوحيد الذي سمح له حافظ الاسد بدخول حماه بعد شهر من المذبحه