اتفاق الدول الكبرى مع إيران في فيينا حول ملفها النووي يؤكد قاعدة تجاهلتها أروقة السياسة العربية؛ القاعدة تقول بعدم وجود صداقات دائمة ولا عداوات دائمة بل هناك مصالح دائمة.. وحين يطلع المرء على فحوى الاتفاق وبنوده، ويتابع تصريحات أطرافه يتأكد له رضاها عما أنجزت وحققت.. فالرئيس الأمريكي باراك أوباما اعتيره إنجاز دبلوماسيا كبيرا لإدارته. واعتبر الرئيس الإيراني حسن روحاني أن بلاده توصلت لـ«اتفاق شامل»؛ يسمح لها باستخدام وتطوير التقنية النووية السلمية، ويلغي العقوبات الاقتصادية، وقرارات مجلس الأمن ضدها، ويُخرجها من تحت طائلة البند السابع لميثاق الأمم المتحدة. ورحبت الأمم المتحدة والاتحاد الأوربي بالاتفاق.. وإن جاء الترحيب الفرنسي حذرا ومتحفظا.. وفى موسكو، صرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأن «العالم بوسعه الآن أن يتنفس الصعداء»، ويرى أن الاتفاق يسهم فى محاربة الإرهاب.
وعلى المستوى العربي جاءت المواقف متباينة ومتناقضة؛ فدولة الإمارات العربية رحبت بالاتفاق، واعتبرته محاولة لإبداء حسن النوايا، وله مردود اقتصادي وتجاري عليها، مع رفع العقوبات عن طهران. ورحبت الحكومة السورية به وعولت عليه في رفع العقوبات عن حليفها الإيراني بما يسمح بزيادة مساعداته المالية والعسكرية، ويساهم في تغيير الموازين على الأرض لصالحها. أما الموقف الرسمي السعودي عبر عن عدم رضاه الكامل وقلقه من تحول طهران إلى قوة اقتصادية ونووية، تشد من أزر حلفائها الإقليميين؛ في سوريا والعراق واليمن ولبنان، وتجعل أصدقاءها الدوليين يتنفسون الصعداء، كما جاء على لسان الرئيس الروسي.. وهذا يهدد دولا عربية وإسلامية تعتمد الانحياز الطائفي والتحيز المذهبي في علاقتها مع الغير. ومصر؛ المتعاونة مع الرياض والمتحالفة مع أبو ظبي، فإن موقفها بدا دبلوماسيا.. عبر عن أملها في أن يُؤدي الاتفاق إلى وقف سباق التسلح فى الوطن العربي وإقليم الشرق الأوسط.. ويؤكد على موقفها الثابت من إخلاء المنطقة من أسلحة الدمار الشامل؛ بما فيها الأسلحة النووية، وتمنياتها بتحقيق الاستقرار والأمن.
وهذا الاتفاق التاريخي لا يخلو من ألغام؛ يمكن توقعها من خلال التفاصيل الفنية والسياسية والمالية الكثيرة الواردة فيه، وفي تصريحات الموقعين عليه.. فتفاؤل الرئيس الروسي عكس ما بثته وكالة «الأناضول» التركية على لسان نائب رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الدوما (البرلمان) الروسي؛ ليونيد كلاشينكوف (15/ 7/ 2015)، وجاء فيه: «الولايات المتحدة الأمريكية افتعلت أزمة الملف النووي الإيراني لتحقيق أهداف أخرى؛ منها «إنشاء نظام الدرع الصاروخي ضد روسيا والصين»، ونوه إلى أن واشنطن افتعلت هذه الأزمة للاختباء وراءها لنشر الدرع الصاروخي!
وعزز رأيه بتعليق وزارة الخارجية الأمريكية على الاتفاق في الرابع عشر من هذا الشهر، حيث أشار إلى أن التوصل لاتفاق حول الملف النووي الإيراني لا يلغي الحاجة لإنشاء ونشر نظام الدرع الصاروخي!
ويرى البرلماني الروسي أن واشنطن استخدمت حرب المعلومات بكل مهارة، وخدعت أوروبا لتبسط نفوذها عليها، وتنشر أنظمة الدرع الصاروخي؛ الموجهة ضد الصين وروسيا؛ مطالبا روسيا «بالعمل جدياً على امتلاك أسلحة صاروخية ثقيلة»!
ومع أن الرئيس الأمريكي قد أشار إلى الفرصة المتاحة لاعتماد نهج جديد في علاقات واشنطن وطهران؛ كان رده على رفض الدولة الصهيونية للاتفاق هو التعهد بدعمها وتعزيز قوتها وحماية أمنها وضمان وجودها، ويرى أن الاتفاق قطع الطريق أمام حصول طهران على سلاح نووي!!.. واستغل الرئيس الأمريكي الفرصة ليعطي ظهره للمنطقة العربية.. وقوله في أول مؤتمر صحافي عقده فور توقيع الاتفاق: «ليس من مهام الرئيس الأمريكي حل مشاكل الشرق الأوسط، وإنما هي مهمة دول تلك المنطقة»، وإن لم يمنع نفسه من التدخل في شؤونها؛ ببذل الجهود على المدى الطويل لمواجهة مشاكل الشباب فى منطقة الشرق الأوسط من خلال توفير فرص عمل ورؤية أفضل حتى لا تجذبه الأفكار المتشددة الخاصة بالتنظيمات العنيفة مثل تنظيم داعش.
هذا على العكس مما صرح به جون كيري وزير خارجيته من استمرار دعم بلاده لحلفائها وشركائها الرئيسيين فى الشرق الأوسط، وحرصها على «التصدي لأي أنشطة إيرانية لزعزعة استقراره»!
ووصف رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو الاتفاق بالسيئ.. مؤكدا على ما أسماه «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها». وأعلن أمام الصحافيين الأجانب في 14/ 7/ 2015 عدم التزام حكومته بالاتفاق، محتجا بمواصلة إيران التهديد بإبادة الدولة الصهيونية، وأدان ما اعتبره مقامرة من الدول الكبرى على مستقبل دولته، وإبرامها صفقة مع من وصفه بـ»الراعي الرسمي للإرهاب الدولي»، ويقصد إيران.
ويأتي هذا الاتفاق التاريخي في ظروف غياب موقف عربي موحد من جارة حققت انتصارا لا يمكن إنكاره، وضربت مثلا في المثابرة وطول النفس. ولم تندب حظها، وتبرر ضعفها، وتستجدي خصمها، وتراهن على عدوها، ولكنها تروض مخالفيها، وترفض العدوانية الأمريكية والعنصرية الصهيونية. وواجهت الحصار بالاعتماد على الشعب وعلى علمائه وخبرائه وإمكانياته الذاتية وكفاءاته الوطنية؛ وأضحت قوة نووية يحسب حسابها..
والعرب المشغولون ببلاء نبش القبور والبحث في الكهوف عما يؤجج العداوات والخلافات والخصومات. والإبداع في فنون الموت والموت المضاد، هؤلاء صاروا عالة على العالم، وحيل بينهم وبين رؤية التقدم والنهوض بين النمور الآسيوية وفي أمريكا اللاتينية وكوريا والهند والصين؛ المتوقع لها منافسة أمريكا على القمة الاقتصادية والسياسية والثقافية في القريب العاجل.
وسياسة إيران؛ مع ما عليها من ملاحظات، نقيض السياسات العربية؛ لم تقبل إذعانا ولا استجدت أحدا، ولا تنازلت أو فرطت في حق أو مطلب. وأكدت دورها الإقليمي وحضورها العالمي، وتحدت بصمودها الأسطوري، وطول نفسها النادر مناورات وتهديدات الغرب والحركة الصهيونية.. وها هي تقطف الثمار في محيط وجوار معادٍ لها؛ فيه من يعتبرها أخطر من الحركة الصهيونية!.
ومن الممكن أن يكون الاتفاق بداية لتغيير جذري في الفكر السياسي الدولي؛ الغربي تحديدا، فلم يسمح بوضع المصلحة الصهيونية فوق المصالح العالمية. وهذا يستمد قيمته من أن ما تم ليس اتفاقا بين دولتين؛ بل بين الدول الكبرى الست وإيران؛ منها خمس دائمة العضوية في مجلس الأمن وتمتلك حق النقض «الفيتو» هي الولايات المتحدة والصين وروسيا وبريطانيا وفرنسا، والسادسة ألمانيا، فهذا إقرار بالندية، وبتراجع تأثير الدولة الصهيونية، وكانت تهدد بتدمير المواقع النووية الإيرانية منفردة، ولم تستطع!.
وعلى العرب ألا يَدَعوا فرصة التحولات الإقليمية والعالمية المتوقعة بسبب هذا الاتفاق أن تفلت، وإعادة النظر في علاقتهم بإيران على قواعد التعاون والمصالح المشتركة والأمن المتبادل وحسن الجوار، وتأسيس لخطاب ديني وسياسي جامع؛ مبرأُ من التكفير والفتنة والعنف والدم.. ولتكن البداية الهيئات الإسلامية الجامعة، وأخص الأزهر تحديدا. ويعلم الإمام الأكبر وشيخ الأزهر الحالي أن الأزهر أكبر من المذاهب والطوائف والسلالات.. وهو هيئة إسلامية علمية وأكاديمية جامعة؛ غير قابل للاختزال في فرقة أو مذهب أو سلالة. وكان على شيخه ألا يقع في فخ مقولة أن الأزهر حصن «أهل السنة والجماعة»، وبذلك جعله يتشدد ضد المذاهب الأخرى في تجاهل متعمد لتراث أئمة أجلاء أمثال الشيخ محمد عبده، والشيخ رشيد رضا، والإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت، وغيرهم من العظماء.. فالأول وحد الافتاء، وجعل لـ»الديار المصرية» مفتيا واحدا، بعد ما كان لكل مذهب شيخ يفتي له.. والثاني وضع قاعدة نقلها عنه من جاءوا بعده تقول: «نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه»، والثالث شَغَله التقريب بين المذاهب، وأجاز التعبد على غير المذاهب الأربعة؛ (الشافعي والمالكي وأبو حنيفة وابن حنبل). وأضاف إليها المذهب الجعفري، واعتبر الأباضية من المذاهب المعتبرة. وفتواه بتفاصيلها منشورة لمن يريد الاطلاع عليها.
وعلى المستوى السياسي فإن الوضع في حاجة لمبادرة تدعو لعقد قمة عربية استثنائية؛ تؤسس لعلاقات عربية إيرانية جديدة أساسها الاحترام المتبادل والتعاون المشترك وحسن الجوار قبل فوات الأوان.. مع التخلي عن البحث في فنون الموت والموت المضاد، والتوقف عن اقتراف جريمة الانتحار الجماعي!!
كاتب من مصر يقيم في لندن
محمد عبد الحكم دياب