عندما نطالع قراءات متكررة حول أعمال أديب ما، فهذا لا يعني بالضرورة أن منجزه على تلك الدرجة من النضج والجاذبية، التي يتكالب بموجبها النقاد على تحليل كتاباته وعرض مراجعات لها، إنما يمكن تسجيل ذلك التكرار السمج ضمن حالة الفساد الثقافي المستشري.
فهؤلاء المحسوبون على النقد والثقافة لا يقولون في مقالاتهم المدائحية أي شيء يذكر، بل مجرد تمجيد للكتاب وكاتبه بموجب ميثاق فاسد. إذ يلاحظ أن معظم تلك القراءات تتركز حول أعمال أدبية لأشخاص يقيمون في مواقع تنفيذية. كاتب يرأس هيئة ثقافية مثلاً، أو مسؤول عن صفحة ثقافية، أو ربما مدير ملحقية ثقافية، أو سفير دولة أحياناً وهكذا.
بين آونة وأخرى نفاجأ بإصدار عادي مدموغ غلافه الخلفي بعبارات تبجيلية لكوكبة من النقاد، أو بمقدمة فخمة الألفاظ خاوية المعنى لكتاب تافه، تماماً كما نصادف مقالة لناقد له مكانته وسمعته عن رواية أو مجموعة قصصية أو قصيدة شعرية لأحد أولئك المتنفذين، وهي حالات كثيرة ومتكررة ومستمرة. ولا نستغرب من ذلك الكم من القراءات المجانية، فهي مطالعات مدّبرة ومدفوعة، أشبه ما تكون بالإعلان التجاري لمنتج يستجدي التسويق، إذ لا يمكن لناقد أن يخلق من أي عمل هش أعجوبة أدبية، ومهما مارس من النفخ والالتواء والتصعيد، يظل ذلك النص الملتبس بالإبداع هاجعاً ومنقوصاً، بل كسيحاً، لدرجة أن كثرة مطالعاته الصحافية تزيده بؤساً، وتدفع به إلى خانة المشتبهات الأدبية.
هكذا نقرأ تلك القراءات التي تعمل كرافعة لنصوص خائرة القوى، فالنقاد الذين يتحمسون للكتابة عن منتجات الشخصيات الاعتبارية، يدركون تماماً أنهم بصدد أداء فروض الترويج لبضاعة كاسدة، وهم إنما يُقدمون على تلك الجنايات الثقافية اضطراراً، إما طلباً للمال، أو مجاملة، أو تسديداً متأخراً لمستحقات خدمات سابقة، أو ربما تقرباً وطمعاً في فرصة مادية أو وجاهية وهكذا. وهو أمر مفهوم ومستوعب فالثروة والجاه والسلطة تتوفر عند فئة يمكنها قهر منتجي المعرفة وتطويعهم واستخدام رأسمالهم الرمزي بكفاءة عالية. ومجرد نظرة عابرة على منتج النص والمروج له عبر قراءة من تلك القراءات تكفي لمعرفة السر، والإحساس المُرّ باختلال المعادلة.
إن كثرة المطالعات التي تُنشر في وسائل الإعلام حول أي عمل أدبي، ليس بمقدورها توطينه في وجدان ووعي القارئ، بل العكس هو الصحيح، حيث يمكن أن يؤدي تكثُّر تلك القراءات المبرمجة إلى تنفير القارئ من العمل الأدبي المطروح، وفقدان الثقة في كاتبه، إذ يصعب على أي ناقد إقناع القراء بفرادة ذلك العمل لمجرد الرهان على اسمه وسمعته ومكانته كناقد. وقد يكون بمقدوره خداع نفسه إلا أنه لا يستطيع بحال تمرير كذبته على القارئ، ولا يقدر على التبرؤ من شُبهة الارتزاق، مهما أوتي من سطوة معرفية وفذلكة لغوية.
القراءات النقدية لأعمال بعض الحكام المولعين بتسجيل أسمائهم في خانة الإبداع تبدو فاقعة ومفضوحة، وكذلك تلك التي تتناول منتجات السفراء والساسة ورجال الأعمال. ولكن المطالعات التي ترفع من شأن أعمال بعض المتنفذين ثقافياً تبدو غامضة بعض الشيء، إذ يمكن أن تُسجل في حقل الثقافة العام، إلا أن اللعبة سرعان ما تنكشف بمجرد ظهور نتائج ذلك التواطؤ على الأرض، من خلال الدعوات الرسمية والاستضافات الإعلامية والانضمام إلى الهيئات الاستشارية، خصوصاً أن المشهد العربي الذي يختزن في تاريخه قائمة طويلة بتلك التواطؤات، لا يستطيع كتمان سر اللعبة، حيث يشي كل ناقد برفيقه، أو يفضحه غيرة منه ونكاية به. وأحياناً يتعمد الشخص المتنفذ إذلال الناقد المستأجر من خلال تسريب بنود الحلف المدّنس بينهما لأسباب لا ثقافية.
الناقد المرتزق لا كرامة له، وكذلك الكاتب المتنفذ لا أمان له، فهما جزء من منظومة الفساد الثقافي، ومن ينادي بتجاوز هفوات الناقد نظراً لطبيعة وضعه المادي وضعفه البشري يجب ألاّ يغفل عن جناياته الممكنة على الأدب، ومدى ما يمكن أن يحدثه من تخريب في الوعي والذاكرة والذائقة، حيث يمكن أن يقدم ذلك المنتج الرديء كأنموذج للكتابة الإبداعية الخلاقة. أما الكاتب المتنفذ، الذي يستخدم موقعه وسلطته وماله لاستئجار النقاد فهو لا يدمر النص الأدبي بنصه الفاسد وحسب، بل يمارس إفساداً قصدياً للخطاب النقدي، وبالتالي فهو يشكل أداة لتخريب فكرة الثقافة.
من الأدب بمعناه الجمالي والأخلاقي أن يختار الناقد النص الذي يريد مناقدته، واختبار أدواته ومنهجيته عليه. ولكن ما يلاحظ هنا في هذه العلاقة الملفقة، أن الكاتب المتسلط بمكانته اللاثقافية هو الذي ينتقي نقاده، بمعنى أنه لا يرمي نصه عند أي ناقد كيفما اتفق، إنما بموجب دراية منه بخريطة النقد العربي وأسمائه، وربما وفق توصيات من لجنة استشارية تختار له الأسماء الرنّانة، التي تملك الاستعداد المعرفي والنفسي والأدبي للتواطؤ معه على كذبته، وهو لا يلوّح بنصه من بعيد، بل يوكله إلى الناقد كوظيفة إلزامية.
كل هذا التواطؤ المعلن ما بين بعض النقاد المرتزقة والكاتب المسترخي في سلطته المالية والاعتبارية، لا يعني عدم وجود نقاد يرفضون الخضوع لتلك المعادلة المخجلة، وإذا كان بعض مرتزقة النقد يتمنون لو أنهم يمتلكون ممحاة كبيرة ليمسحوا لطخات عار الارتزاق النقدي، فإن الأبرار من النقاد يحق لهم التفاخر بنصاعة تاريخهم النقدي. أما الكاتب الذي يفرض جبروته بنعومة المستبد، الذي يباهي بأسماء من كتبوا عنه من أولئك المستأجرين، فلا يستطيع أن يرفع رأسه قبالة نقدي حقيقي، ولا أن يمد يده بكتابه إليه ليطالعه. وبالتأكيد، لا يمكنه النظر إلى وجه القارئ الذي ينظر بعين الريبة والاستخفاف إلى تلك القائمة الطويلة من مرتزقة النقد.
كاتب سعودي
محمد العباس
تحياتي : مقال جريء وجميل وهادف…تقديري كقاريء للكاتب محمد العباس لمثل
هكذا ( لسعات ) شجاعة لتعديل ميلان النفوس ؛ من الدجل إلى المسؤولية.وكذلك لردع مرتزقة وقمامي المقاهي الثقافية.وتبقى الكلمة مسؤولية ؛ لهذا كانت الكلمة هي الأولى للكتاب الأول الذي أنزله الله على الناس : التوراة ؛ وبها سبحانه ابتدأ وختم آخركتاب أنزله للناس : القرآن..فتمت كلمة ربّك صدقاً وعدلاً.