الاساءة الشيوعية «المشرقية» لتاريخ «المرتزقة»

حجم الخط
2

في أسبوع واحد، رأينا جميعاً، شخصاً ظريفاً يقدّم نفسه على الشاشة بأنّه شيوعي عراقيّ مناصر لتنظيم «الدولة الإسلامية»، وكان ظهر قبل سنوات أيضاً للتعزية بأبي مصعب الزرقاوي وعدّه شهيداً للمقاومة الوطنية العراقية الشريفة في مواجهة الإمبريالية.
ثم رأينا، صورة جرى تداولها عبر مواقع التواصل العصبيّ، لثلّة من الشبان، مزنّرة زنودها برمز «المطرقة والمنجل»، وبالزيّ الحربيّ (السوفياتي؟ الروسي الحالي؟ أو هبة من انفصاليي الدونباس في الشرق الأوكراني؟!)، وفي الخبر المرفق، والذي استجلب حفلات من الساركازم على مواقع التواصل، أنّ «الحزب الشيوعي اللبناني» قرّر تلبية النداء الذي سحبه «حزب الله» رسمياً من التداول، حول «التعبئة العامة»، ضد «التكفيريين» في جرود عرسال أو تعدياً للحدود، في اتجاه القلمون السوريّة.
وفي الما بين، يواصل «الحزب الشيوعي السوري» (العائلي) أنشطته الخطابية والموسيقية في قاعة متاحة له بمنطقة المزّة، ويستحضر قادته أجواء فيلم «دكتور جيفاغو» مبهبطة على الواقع السوريّ، منتقدين الحكومة على سياستها التموينية، المنافية للمدرسة البلشفية في «اقتصاد الحرب». بطبيعة الحال، هذه صورة مشوّهة اذا ما أريد لها أن تختصر كل معطى يساري عربي راهن. لئن كانت هناك «هامشية شيوعية» مؤيدة لـ»حزب الله» و»شيوعي هامشي» مؤيد لتنظيم «داعش» فمن المؤكد أنّ ثمة الكثير من الشباب في البلدان العربية، الذين يتعرّفون على أنفسهم في هويّات يساريّة أو تقدّمية ما بشكل أو بآخر، ويفتقرون الى الوجود السياسي المكتمل حالياً، لكنهم على الأقل، لا يتبخترون بثياب الحفلة التنكّرية المضحكة المبكية، بل المضحكة فقط.
هناك بعد عالمي للمسألة: معظم الأحزاب الشيوعية في عالم اليوم هي أقرب الى النظام السوري «التقدمي» منها الى المنتفضين عليه، ووحدها التشكيلات التروتسكية المختلفة تمثل على هامش هذا الهامش، الموقف المغاير، وان يكن على حساب تزيين المشهد السوري بألوان لا يقترحها.
أيضاً يمكن القول بأنّ الحرب العالمية اللابريّة التي تشنّها الولايات المتحدة الأمريكية ضد تنظيم «الدولة الاسلامية» منذ أكثر سنة تكاد تكون بلا طائل، هي أوّل حرب امبريالية في التاريخ المعاصر لا تستنهض الحد الأدنى من التحرّك لأنصار السلم، في حين سارت التظاهرات المندّدة بالحرب على يوغوسلافيا وأفغانستان والعراق، وكذلك ضد التهديدات الأمريكية بقصف مواقع للنظام السوري بعد استخدامه الكيماوي في الغوطة الشرقية، قبل الاسراع الروسي لتقديم صفقة نزع الترسانة، ما أعطى للنظام السوري فترة سماح جديدة الى حين التخلّص من معظم هذه الترسانة.
هناك حرب تخوضها الولايات المتحدة الأميركية ضد تنظيمي القاعدة والدولة الاسلامية. وهناك حرب يخوضها «حزب الله» ضد هذين التنظيمين في المناطق التي يتواجدان فيها بدرجة أقل بكثير من سواها على الخارطة السوريّة. في هذا المشهد المركّب، ثمّة بقايا الشيوعية السوفياتية في البلدان العربية، وهي تريد حشر أنفها، كما لو كانت المسألة مراهنة في سبق الخيل، أو أن تخيّل بنفسها، فحمل البارودة الى جانب «حزب الله» وتحت لوائه ضد «القوى التكفيرية». عسى أن ينتبه المقاتل «الشيوعي» حالياً أنّه لا يخوض الصراع ضد «القوى الظلامية» كما كان يسمّي حزبه «حزب الله» في مرحلة تنكيل الأخير بالمثقفين الشيوعيين والكوادر بالثمانينيات. هذه المرة، «الشاطر حسن» الشيوعي، يقاتل تحت قيادة «السيد حسن»، أي مع «الظلامية المستنيرة»، ضد تلك «التكفيرية». ولو كان الشيوعيّ هذا قد درس الأدبيات السوفياتية بعض الشيء في المرحلة الأفغانية، لكان امتلك ذكاء اختيار صفة لداعش والنصرة غير تلك التي يتوسّع فيها «حزب الله» لتشمل أنسجة أهلية واسعة وليس فقط فصائل مسلّحة، فقال هذا الشيوعي مثلاً أنّه يحارب «المتأسلمين». أما أن ينهض لمحاربة «التكفير» فما شأنه أساساً بهذه المسألة؟ وهل ثمة غير اجماع «داعش وحزب الله» على اعتبار الماركسية والالحاد مترادفين، وكان ثمة نشيد لـ»حزب الله» في الثمانينيات، بل التسعينيات، يتكلم عن «دك حصون الالحاد». طبعاً لم يكن المقصود يومها الحاد جان بول سارتر .. بل الالحاد الشيوعي!
يصرّ أنصار «حزب الله» من الشيوعيين واليساريين في الوقت نفسه أنّهم يقاتلون «التكفيريين» الى جانب الخمينيين، انما من الموقع «النقدي» بازاء هؤلاء. طبعاً ليس عن نقد الايمان من موقع الالحاد يجري الحديث، ولا عن موقع نقد الغيبية من موقع المادية. بالأحرى، الاجتهاد الشيوعي يحاول في شكله المبتذل ايجاد تسويغ مادي تاريخي لداعش حين يواليها أحدهم أو لـ»حزب الله» حين يواليه أكثر شيوعيي لبنان حالياً، وأكثر هؤلاء ينتمون اثنياً الى الطائفة الشيعية. وطبعاً، اللينينية أرست تراثاً حافلاً يتعلّق بـ»التحالفات». لكن اللينينية ميّزت بين تحالف مبدئي وآخر غير مبدئي.
غير المبدئي مثلاً: التنسيق بين البلاشفة بقيادة لينين وبين المخابرات الألمانية لتأمين عودة الأوائل الى روسيا بعد الاطاحة الشعبية بالحكم القيصري (حالياً السردية المهيمنة على روسيا تخوينية للينين بسبب ذلك، ومعظّمة لستالين في المقابل).
والمبدئي هو ما حدّد بشروطه في اللينينية، بأنّ يكون هناك هدف مشترك بين المتحالفين، واتفاق على أسلوب معين لخدمة هذا الهدف المشترك، وأن تكون هناك حرية لنقد الحليف. طبعاً، حرية نقد الحليف كرفع عتب شائعة. نقد السياسة التموينية للحكومة عند الشيوعي السوري، نقد شعار «لبيك يا حسين» عند شيوعي لبناني. لكن اللينينية لم تكن تافهة الى هذه الدرجة. كانت تعني بنقد الحليف تحديد موقعه الطبقي أساساً، أي بمعنى آخر ما يمكن أن ينجزه في هذا التحالف وما لن يستطيع انجازه الا بتخطيه أو الاصطدام معه في مرحلة لاحقة. «تحالف لينيني وأبدي» هذا مستحيل عند لينين، وممكن فقط في المدرسة الشيوعية المدجّنة بعثياً وخمينياً.
أيضاً من شروط التحالف أن يكون من تتحالف معه على علم وقبول بأنك تحالفت معه، وهذا لا يمكن أن يحصل ان تحالف معه «من وراء ظهره»، أو ذيلياً، «من تحت لتحت». التحالفات في السياسة لها شبهة «العقود المؤقتة»، وليست «حبّاً من طرف واحد». ثم ان الشيوعي الذي يحالف «حزب الله» ذيلياً على «داعش متخيلة» ألا يفترض به أن يعترف بأنّه «حليف نقدي» للامبريالية الأمريكية كذلك الأمر ضد تنظيم «الدولة»؟
بطبيعة الحال، يبرّر الشيوعيون الحاليون «مبدئيتهم» الى جانب «حزب الله» – وهي الى حد ما مبدئية كونها انتهازية مجانية – بالانتهازية السابقة لقيادتهم في الثمانينيات حين بعثت بالشباب للقتال في جنوب ليبيا ضد التشاد. «طول عمرنا مرتزقة» يكاد لسان حالهم أن يقول. من جهته، جمال عبد الناصر لم يقل غير ذلك حين سجن الشيوعيين المصريين والسوريين في أحضان معتقلاته يوم كانوا يتحمسون لعبد الكريم قاسم ضده، في وقت كان الزعيم السوفييتي نيكيتا خروتشيف يستقبل ناصر بالأحضان.
لكن هنا أيضاً هناك مرتزقة ومرتزقة. المرتزقة عبر التاريخ لم يكونوا دائماً على نمط واحد. واذا كانت الدلالة اللغوية للمصطلح تحيل على التكسّب، فإنّ المرتزقة عبر التاريخ كثيراً ما كان حب السفر والقتال في البعيد، وحب الارتماء في أحضان المجهول والنساء المختلفات عن بلادهم الأصلية، وحب العودة وسرد الغرائبيات على الأهل، في طليعة ما يدفعهم. طول التاريخ لعب المرتزقة دوراً مهماً في التفاعل الحضاريّ وفي تنمية حسّ المغامرة. الارتزاق كان أيضاً بحثاً عن «الاكزوتيكي» واختراعاً لها.
وبهذا المعنى، حتى في مشهد مؤسف، وعقيم للغاية، كمشهد ارسال شيوعيين لبنانيين في عزّ الحرب الاهلية اللبنانية الى منطقة المواجهة الليبية التشادية كان يحتوي على عنصر «اكزوتيكي» ما.
لكن ما هو «اكزوتيكي» في انضمام شيوعي لبناني للقتال في جرود عرسال مع «حزب الله» ضد «جبهة النصرة» أو الشتات المسلّح هناك، ان لم يكن «المطرقة والمنجل» نفسها؟!
في بقايا الشيوعية العربية اساءة لهذا المفهوم الساحر في أمكنة عديدة، مفهوم «المرتزقة».
ينسب الى الزعيم الشيوعي السوري الراحل خالد بكداش تمييزه ذات مرة بين وجود أحزاب شيوعية حقيقية في سوريا والعراق ولبنان وبين حركة شيوعية مصرية وصفها بأنها «خلايا ديدانية»، وينسب التمييز في أحيان أخرى لسواه. أياً يكن من شيء كان لهذه الحركة الشيوعية العربية مرحلتها الحيوية الكفاحية المهمة في فترة ما بين الحربين العالميتين، وصفحاتها الناصعة حيناً والاشكالية حيناً في فترة الحرب الباردة خصوصاً في العراق وسوريا، وتجربة لافتة لتوطين الماركسية عربياً، خصوصاً في لبنان والعراق. لكنها اليوم تقترب أشبه ما تكون الى وصف خالد بكداش للشيوعية المصرية: «خلايا ديدانية». انما هذه المرة من دون رومانسية ثورية، ولا شخصيات ديناميكية فذة، ولا نقاشات نظرية نافعة أو مسلّية، ولا رغبة، ولا قدرة، على المبادرة الى محاكاة، أو استلهام، نماذج الأحزاب اليسارية الواعدة بنوع جديد من التنظيم والعمل، في تركيا (حزب الشعوب الديموقراطي الكردي اللون)، وفي اليونان (سيريزا)، وفي اسبانيا (بوديموس).
سوف يؤدي سقوط النظام السوري الى صخب كثير للخطاب المعادي لأفكار التقدم والتنوير في هذه المنطقة من العالم. يعود ذلك أيضاً لأن النظام طرح نفسه كتقدمي في مواجهة ثورة تطورت بسرعة لتتحول الى «ثورة رجعية»، كونها ضد «نظام تقدمي» يقتل شعبه بتهمة الرجعية. في الوقت نفسه، الردّة الرجعية اليمينية التي سيتسبّب بها سقوط نظام تقدمي دموي كنظام البعث في سوريا، من بعد العراق، تفترض أن يبادر أحد ما لانتشال راية التقدم والتنوير، ولم لا، الاشتراكية والعروبة، من الوحل البعثي، وليس الى الانتحار مجاناً على أمل اضافة أيام مزيدة لنظام البعث.

٭ كاتب لبناني

وسام سعادة

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول دياب العلي.السويد:

    تحليل دقيق جدا وموضوعي بكل معنى الكلمة ويستغرب المرء من تحالف القوى الشيوعية واليسارية العربيه مع من كان دوما يعمل على اضطهادها بل تصفيتها.فقد وقف اليساريون في مصر مع العسكر الانقلابي المعادي للفكر التقدمي الذي يؤمن به اليسار وهنالك الكثير من الامثلة وخاصة التي ذكرها كاتب المقال الذي يستحق الشكر والتقدير.

    1. يقول الكروي داود النرويج:

      تغيير مصالح واسترزاق على حساب المبادئ
      تحياتي ومحبتي واحترامي لك يا عزيزي دياب وللكاتب المحترم وللجميع

      ولا حول ولا قوة الا بالله

إشترك في قائمتنا البريدية