بدت الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في سوريا، ردا عمليا على الاتهامات التي واجهتها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بغياب استراتيجية واضحة في سوريا، وردا على الاتهامات الموجهة للإدارة السابقة بغياب الدور الأمريكي الفاعل في الأزمة السورية.
وأواخر عام 2017 قررت الولايات المتحدة الأمريكية البقاء في سوريا لأجل غير محدود، بما يفرضه هذا القرار من تعزيز القدرات القتالية للقوات الحليفة لها، الممثلة بقوات سوريا الديمقراطية، وهي قوات تتشكل من عرب وأكراد وفئات قومية أخرى تخضع في قرارها بشكل مطلق لقيادة وحدات الحماية الشعبية، التي تمثل الجناح العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني المحظور في تركيا.
أدخلت الولايات المتحدة تعديلات جوهرية على مجمل استراتيجياتها في سوريا، كما أعلن عنها مؤخرا وزير الخارجية ريكس تيلرسون؛ وتتضمن التعديلات استمرار الوجود العسكري الأمريكي في مرحلة ما بعد الانتهاء من قتال تنظيم «الدولة»، وضرورة هذا الوجود لتدمير ما تبقى من عناصر التنظيم، من خلال محاصرتهم وعدم السماح لهم بالفرار من الجيوب المتفرقة التي ما زالت تحت سيطرتهم. كما كشفت الاستراتيجية الأمريكية عن استمرار الوجود العسكري الأمريكي، لأجل غير محدد لمنع الرئيس السوري بالتحالف مع إيران من فرض سيطرته على كامل الأراضي السورية، ووجوب رحيله كشرط مسبق لأي انسحاب امريكي من سوريا، التي تعتقد الولايات المتحدة أن انتخابات حرة وشفافة ستؤدي إلى رحيله بشكل دائم.
ويمكن استكشاف الخطوط العريضة للاستراتيجية الأمريكية في سوريا في منع عودة تنظيم «الدولة»، وتنظيم «القاعدة» مجددا، والحد من نفوذ إيران في سوريا والمنطقة، ومنعها من الوصول إلى الحلفاء في لبنان وسوريا عبر الأراضي العراقية؛ كما كشفت عن عدم السماح للرئيس السوري بشار الأسد ونظامه بلعب أي دور في مستقبل سوريا بعد التوصل إلى تسوية سياسية للحرب الأهلية السورية، وضمان عودة النازحين واللاجئين السوريين إلى مدنهم وقراهم طواعية من دون إكراه، كما أفصح عنها وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون عندما كان يتحدث في مؤتمر في جامعة ستانفورد الامريكية، أقامه معهد هوفر في 18 يناير 2018. وعلى الأرض، ثمة خطوات عملية لتحقيق الاستراتيجية الأمريكية، كانت أكثرها وضوحا، تمثلت في إعلان التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة في الرابع عشر من يناير 2018 عن تشكيل قوة حرس الحدود قوامها نحو 30 الف مقاتل تحت قيادة قوات سوريا الديمقراطية، يتشكل نصفها من مقاتلي هذه القوات، بينما يتم تجنيد النصف الثاني من أبناء المناطق التي تسيطر عليها وحدات الحماية الشعبية، التي تقود قوات سوريا الديمقراطية. وسيتم نشر قوة حرس الحدود على طول الحدود السورية التركية، في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية شرق نهر الفرات، وعلى الضفة الشرقية للنهر وصولا إلى مدخل النهر إلى العراق، في منفذ البو كمال الحدودي لإقامة نقاط تفتيش ونشر فرق مكافحة العبوات التي خلفها تنظيم «الدولة» في المناطق التي خسرها، ومهام أخرى.
وتجنبا لردود الفعل التركية الغاضبة، حاول وزير الخارجية الأمريكي في الثامن عشر من يناير التخفيف من الدور الأمريكي في إنشاء قوة حرس الحدود بالقول، إن بلاده لا نية لديها لإنشاء قوة حدودية في سوريا، لكنها ستحافظ على وجودها العسكري حتى بعد انتهاء تهديدات تنظيم «الدولة» تفاديا للخطأ الذي وقعت فيه إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، الذي سحب قواته من العراق نهاية 2011 من دون أن يتم القضاء على التنظيم بشكل كامل، الامر الذي أدى إلى عودته ثانية بشكل أكثر قوة نهاية 2013 ومطلع عام 2014.
ومنذ أكثر من ثلاث سنوات بنت الولايات المتحدة تحالفا عميقا مع قوات كردية قاتلت في مدينة كوباني (عين العرب) ضد تنظيم «الدولة» الهدف الأول للتحالف الدولي الذي تشكل في أغسطس 2014 بعد شهرين من سيطرة التنظيم على مدينة الموصل ومدن أخرى في العاشر من يونيو 2014، واستمرت الولايات المتحدة في تقديم الدعم التسليحي لتلك القوات والتدريب والاستشارة، على الرغم من الاعتراضات التركية.
وكانت تركيا قد أطلقت في أغسطس 2016 عملية «درع الفرات» لانتزاع المدن والمناطق الحدودية من سيطرة تنظيم «الدولة»، ومنع الأكراد من ربط الكانتونات الثلاثة جغرافيا في شمال وشمال غرب سوريا؛ لكن الأكراد بدعم أمريكي يمضون قدما باتجاه إقامة منطقة حكم ذاتي، أو إدارة لا مركزية بصلاحيات مستقلة عن حكومة المركز في الكثير من جوانبها، وعززت هذه المساعي إقدام التحالف الدولي على تشكيل قوة حرس حدود خاصة تحت قيادة قوات سوريا الديمقراطية، التي تدير مناطق الإدارة الذاتية (الكانتونات الثلاثة). وأقامت قوات سوريا الديمقراطية، بدعم أمريكي، منطقة إدارة ذاتية شملت ثلاثة كانتونات (مقاطعات) في الشمال السوري، تمتد من الشرق على الحدود العراقية في محافظة الحسكة، بما يعرف باسم كانتون الجزيرة، ويتجه غربا بمحاذاة الحدود التركية، بما يعرف باسم كانتون كوباني (عين العرب) شرق نهر الفرات الذي تفصله جغرافيا عن الكانتون الثالث المعروف باسم كانتون عفرين غرب نهر الفرات، مناطق خاضعة لفصائل المعارضة السورية الحليفة لتركيا في بلدات جرابلس والراعي واعزاز على الحدود التركية.
وتحاول الولايات المتحدة الحفاظ على وجود قوات أمريكية في مرحلة ما بعد الانتهاء من قتال تنظيم «الدولة»، لضمان ملاحقة مقاتليه وعدم السماح للتنظيم بإعادة هيكلته، بما «قد» يشكل خطر احتمالات عودته للسيطرة على مناطق ومدن سورية في مرحلة لاحقة؛ لكن الحكومة التركية لا تجد في الايحاءات الأمريكية لمهام القوة الجديدة ما يكفي من التطمينات للخطط الأمريكية، التي تصب دائما في تعزيز قدرات قوات سوريا الديمقراطية القتالية والتسليحية وزيادة نفوذها على الأرض. لكن الولايات المتحدة، ومع الدعم المستمر لقوات سوريا الديمقراطية، لا تزال تعارض إنشاء كيان سياسي كردي مستقل في سوريا؛ كما أن الدعم الأمريكي ظل مثار تساؤلات عدة، حول إمكانية استمراره على المدى البعيد، بعد الانتهاء من قتال تنظيم «الدولة» الذي كان يشكل الهدف الأول من تشكيل التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، واستعدادها للتضحية بعلاقاتها الاستراتيجية مع تركيا، العضو الشريك في حلف الناتو الذي يستضيف قاعدة الدعم الأساسية لعمليات محاربة الإرهاب انطلاقا من قاعدة أنجرليك في جنوب تركيا. وتجد تركيا في خطوة التحالف الدولي بتحويل قوات سوريا الديمقراطية إلى حرس حدود بمثابة قوة ثابتة تهدد الأمن القومي التركي، تستوجب اتخاذ ما يلزم من الإجراءات الاستباقية لمنع الولايات المتحدة والتحالف الدولي من بناء مثل هذه القوة، التي ستزيد من قدرات مسلحيها على حدودها الجنوبية، وهددت على لسان الرئيس رجب طيب اردوغان بوأد هذه القوة التي وصفها بأنها «جيش إرهابي»؛ وهي سياسة تركية ثابتة في مواجهة تهديدات أي قوة مسلحة على حدوها الجنوبية.
ومع انطلاق عملية غصن الزيتون في 20 يناير لإخراج مقاتلي قوات سوريا الديمقراطية من مناطق كانتون عفرين، سيكون للقوات التركية وبإسناد من المعارضة السورية المسلحة محطة أخرى نحو الجنوب، حيث مدينة منبج الخاضعة هي الأخرى لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية، وكلاهما غرب نهر الفرات، الذي لا تعترض الولايات المتحدة على مثل هذه العمليات طالما لم تتطور العملية العسكرية إلى شرق الفرات.
وتعلن تركيا أن عملية غصن الزيتون تشمل منطقتي عفرين ومنبج في مرحلتها الأولى ومناطق الشريط الحدودي شرق نهر الفرات، وصولا إلى الحدود السورية العراقية التركية في المرحلة الثانية، وهو ما قد يخلق حالة توتر غير مسبوقة في العلاقات التركية ـ الأمريكية يمكن أن تتطور إلى دعم امريكي حقيقي للقوات الكردية وقوة حرس الحدود الجديدة؛ وتعد مناطق شرق الفرات منطقة نفوذ عسكري امريكي لا تسمح بتقويضه، وهذا ما تدركه تركيا جيدا، التي قد تكتفي بتأمين مناطق غرب نهر الفرات بانتظار تفاهمات روسية تركية أمريكية مستقبلا.
كاتب عراقي
رائد الحامد
تحليلك منطقي يا أستاذ رائد
ولكن :
ألا ترى أنه لا وجود للمنطق بالسياسة الأمريكية وخاصة مع ترامب !!
ولا حول ولا قوة الا بالله