من تابع المشهد السياسي العراقي بتناقضاته وإشكالياته، ما كان إلا أن يفهم حقيقة الانفصام الفعلي للدولة العراقية، وانقسام أحزابها الحاكمة والمعارضة على حد سواء، نتيجة لانخراطها المعلن في أجندات إقليمية هي نفسها تتبع لتأثير الدول العظمى المتعددة الأقطاب. وترجمت الأزمة السياسية الأخيرة التي جاء بها قانون تشريع «الحشد الشعبي» والطلاق الجديد بين «التحالف الوطني» و»تحالف القوى» استحالة الوصول إلى حل للأزمة العراقية في ظل استمرار الانتهاكات والتدخلات الخارجية، وانعدام المناخ الوطني الملائم للدخول في حوار شامل يحقق العدالة ويضع حدا للتخندق الطائفي، الذي أدخل العراق في دوامة من الاضطرابات. حيث كان لدخول العراق في دائرة الصراع الإقليمي والدولي الواسعة الأثر الكبير في وصوله إلى هذا الطريق المسدود.
أولى رياح حلقات هذه الدائرة التي عصفت بالعراق وأكثرها تأثيرا هي الوجود الأمريكي المستمر منذ 2003 والتغيرات السلبية التي نتجت عنه، في السماح لإيران في بسط نفوذها من خلال ولادة نظام سياسي أحادي الطائفة. لقد بات من الواضح أن استراتيجية الإدارات الأمريكية المتتابعة، فضلت الاعتماد على دور النفوذ الإيراني في منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط من خلال توفير الدعم السياسي لعراق طائفي يدخل ضمن معادلة جديدة بنيت على أساس إعادة رسم منطقة الشرق الأوسط في شكلها الاقتصادي والسياسي والاجتماعي. وكان انطلاق الخطوة الأولى من العراق في 2003 باعتراف البيت الأبيض نفسه وإقراره في ان إحداث الفوضى الخلاقة هي خطوة رئيسية نحو إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط للوصول إلى الهدف المنشود في تعزيز النفوذ الأمريكي في هذه المنطقة الغنية في العالم.
ولسوء حظ العراق وسوريا، ومن حسن حظ أعدائها، أصبحت خريطة الشرق الأوسط الجديد في حالة يُرثى لها بعد أن دفعت تداعيات الأحداث في هذين البلدين لخروج استراتيجية الشرق الأوسط الجديد عن نطاق السيطرة بعد توسع دائرة التناقض المذهبي بين طرفي المعادلة التي يمثلها الدين السياسي القومي الإيراني وبين دول العالم العربي الإسلامي التي تمثل الأغلبية في هذه المنطقة. وهذا ما دفع بتداعيات هذا الصراع إلى الانتقال للمناطق المجاورة للعالم العربي ـ الإسلامي إذا أخذنا بعين الاعتبار الموقع الجغرافي لتركيا وحدودها مع الغرب من جهة، وقرب الجمهورية الإسلامية الإيرانية مع روسيا والدول الإسلامية المحاذية الفاصلة بينهما من جهة أخرى.
من هنا أصبح من الطبيعي معرفة مواقف الغرب وروسيا ورد فعلهما من تطور واتساع رقعة هذه المعادلة المذهبية الجديدة، التي تعدت المجال المخصص لها وانتقالها من العالم الإسلامي إلى المجتمعات الغربية من خلال انتقال الصراع الشيعي ـ السني الذي تدعمه إيران في العراق وسوريا، وبين تركيا ودول مجلس التعاون الخليجي، إلى خارج حدود ساحة صراع الإسلام السياسي التقليدي المستمر بين طرفي المعادلة الدينية الشرق أوسطية.
وعلى الرغم من مواقف الاتحاد الأوروبي الرافضة لبقاء نظام بشار الأسد، والضغوط التي مارستها فرنسا والولايات المتحدة عبر مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة، لم يخف الأوروبيون وعلى رأسهم الفرنسيون مخاوفهم من الفراغ الناتج عن إبدال نظام الرئيس بشار الأسد بنظام معارض جديد، نظرا لتعدد التنظيمات العسكرية المعارضة وتنوع أهدافها السياسية وعقائدها الدينية المتطرفة المخالفة للثقافة الغربية. حيث عززت الأعمال الإرهابية التي حدثت أخيرا في فرنسا والتي نفذها شباب فرنسيون من أصول مغاربية، وتبنتها فصائل من تنظيم «الدولة» في سوريا، هذا الطرح الرسمي الغربي.
وهذا ما يكشف عن مخاوف الغرب من استمرار الصراع الاثني الذي بدأ باحتلال العراق في 2003 وانتقاله إلى المناطق المجاورة، وانتشاره في أوساط بعض شباب الجاليات الإسلامية المهمشة اجتماعيا في المجتمعات الأوروبية التي تأثرت بهذا التنظيم من خلال شبكة الانترنت ليكشف على ما يبدو عن جزء من خفايا الاستراتيجية الغربية غير المعلنة التي تجمع الغرب وروسيا مع إيران، من خلال دعم نفوذها في العراق وسوريا.
وهذا في دوره يعزز الموقف الروسي فيما يتعلق بالنظام السوري ودعمه العسكري. فبالإضافة إلى العمق الاستراتيجي للوجود الروسي في سوريا، تسعى موسكو إلى إبعاد الصراع الطائفي وتمدده إلى المناطق التي تفصلها عن إيران، وهنا لابد من التأكيد على ان الدعم الروسي لإيران يدخل في إطار اتفاق روسي ـ غربي ومن خلال ضوء أخضر أمريكي لتجريد إيران تدريجيا من قدرتها العسكرية والنووية، التي تدخل ضمن نشاط الحرس الثوري الإيراني لتحجيم دور الولي الفقيه في المنطقة، إذا أخذنا بعين الاعتبار محورية الدور الروسي والأوروبي في مباحثات الملف النووي، والأهمية الكبيرة التي يبديها الغرب لعلاقته المقبلة مع طهران، على الرغم من خطورة نظام ولاية الفقيه والحرس الثوري من خلال تواجد حزب الله في لبنان، وموقفه المعادي «المُعلن» من الدولة العبرية مقارنة بموقف إيران «غير الُمعلن» من إسرائيل وارتباطه التاريخي بالغرب وأمريكا. وهذا ما يُفسر طبيعة إشكالية الموقف الرسمي الإيراني وازدواجيته فيما يتعلق بعداء «الحرس الثوري وفيلق القدس» وبين مواقف مؤسسات الدولة الإيرانية العميقة المرتبطة بالغرب التي كان لها الفضل الأول في إخراج إيران من العزلة.
من هنا يبدو أن الأولوية الغربية والروسية، فضلت الاعتماد على دور النفوذ الإيراني الممثل في الحرس الثوري وفروعه المتمثلة في «الحشد الشعبي» للقضاء على تنظيم «الدولة» عسكريا في سوريا والعراق، والعمل على تعزيز هذا النفوذ ومن ثم إدامة المناخ الطائفي واستمرار التطهير المذهبي.
لا شك ان القضاء على تنظيم «الدولة» يجب ان لا يكون على حساب تقسيم العراق والسماح لنظام بشار الأسد في الاستمرار في جرائمه ضد الشعب السوري والاخلال في معادلة التوازن الإقليمية بين الدين السياسي القومي الإيراني وبين العالم العربي ـ الإسلامي.
ان السماح لإيران في بسط وتعزيز نفوذها في العراق سيكون له التأثير غير المرغوب من قبل العرب الشيعة والسنة على حد سواء، وهذا ما سيدفع إلى المزيد من الاحتقان الذي ستكون نتائجه انهيار منطقة الشرق الأوسط. من هنا بات من الضروري على الغرب وروسيا وبمجرد الانتهاء من تحرير مدينة الموصل التركيز على منع الهيمنة الإيرانية من خلال دعم الأحزاب الوطنية في سوريا والعراق والعمل على إعادة التوازن الإقليمي من خلال نظام عالمي متعدد الأقطاب يضمن السلام لشعوب ودول المنطقة.كاتب عراقي
أمير المفرجي