إن ما يميز الأعمال الأدبية هو انطواء بنيتها الدلالية على المعنى المزدوج، أو ما يسميه ريكور «بفائض المعنى». وما دامت الاستعارة هي محك القيمة الإدراكية للأعمال الأدبية، فإن ريكور، من خلال الوقوف عندها، يعطي «نظرية الدلالة اللفظية كامل امتدادها الممكن».
ولئن كانت الاستعارة عند مونرو بير سلي «قصيدة مصغرة» فإن ريكور يرى في المعنى الضمني للاستعارة إيحاءconnotation أكثر منه مطابقة denotation. إن الاستعارة ،عنده دائما، هي الاستعمال المنحرف للأسماء وانزياح التسمية. الاستعارة بالأحرى استعمال منحرف للمسندات في إطار الجملة كلها.
لقد ظلت الاستعارة، طيلة المسار البلاغي القديم، أي منذ السفسطائيين وأرسطو، وإلى حدود القرن التاسع عشر مجرد تعبير مجازي أو صورة شعرية «توفر فيها المشابهة سببا لإحلال كلمة مجازية محل كلمة حرفية غائبة»، ومن ثم فإنها تختلف عن الكناية «التي تحل فيها المجاورة الموقع الذي تحتله المشابهة في الاستعارة». كان هذا فيما مضى، أما النظريات النقدية المعاصرة، فإنها ترى في الاستعارة نوعا من المنافرة، بتعبير جان كوهن، أو نوعا من المجافاة والتناقض والتوتر. وبهذا المعنى الأخير، تكون الاستعارة « خلقا تلقائيا، وابتكارا دلاليا، لا مكان له في اللغة السائدة». ولذلك «تشبه الاستعارة حل لغز أكثر مما تشبه اقترانا على المشابهة، لأنها تتكون أصلا من حل لغز التنافر الدلالي».
إن الاستعارة الحية، بهذا المعنى، هي ابتكار دلالي تلقائي، على الرُّغم من تموقعها في اللغة العادية، لكن بمسند غير متوقع على عكس الاستعارات الميتة التي لم تعد تحمل من الاستعارة سوى الاسم فقط لأنها حصرت المعنى وسيّجته وأصبحت، من ثم، كلاما عاديا. فعبارة «أرجل الكرسي» مثلا لم تعد تحقق التنافر في الجملة، وبذلك فقدت دهشتها وديناميتها في تغريب الكلام. هذا هو مصير الاستعارات المكرورة كما في التداول اللغوي اليومي، أي إن مصيرها هو الموت.
ولما كانت الاستعارة، باعتبارها بناء لغويا يتميز بالانسجام، ويجعل من ثم الدُّنو من بنية المعنى أمرا ممكنا، فإن الرمز على النقيض من ذلك. إن الرموز حسب طبيعتها المزدوجة، طبيعة لغوية، وأخرى لغوية مقيدة بالكون، تجعل من مسألة الاقتراب من بنيتها في غاية الصعوبة. لذلك سعى ريكور إلى توضيحها في ضوء نظرية الاستعارة، ذلك أن «الاستعارة هي العنصر الكاشف المناسب، لإضاءة هذا الجانب من الرموز، الذي له مساس باللغة».
وتجدر الإشارة إلى أن مشروع ريكور الفلسفي، ومنذ كتابه «الزمن السردي»، حتى أواخر حياته، نهض على مفهومين أساسيين، الأول هو «المخيال الاجتماعي» الذي يعني بالنسبة إليه، تلك الكفاية المنتجة لتمثلاتنا في التاريخ والمتجلية إما في صورة الإيديولوجيا، أو في صورة اليوتوبيا. وأما المفهوم الثاني فهو «الهوية السردية» باعتبارها صوغا حكائيا، أو وظيفة حكائية، يكتسبها الانسان عبر إنتاجه لمختلف صنوف القص والسرد والحكي.
فالحكي، باختلاف أشكاله، يستطيع أن يختزل الطابع المشترك للتجربة الإنسانية على اعتبار أن الفعل السردي زمني بالأساس. يقول ريكور: «كل ما نحكيه يحدث في الزمن، ويستغرق زمنا ويجري زمنيا، وما يحدث في الزمن يمكن أن يحكى. ولعل كل سيرورة زمنية، لا يعترف لها بهذه الصفة إلا بمقدار ما هي قابلة للحكي بطريقة أو بأخرى».
تبدو الإشكالية الزمنية والسردية في غاية الصعوبة إلا أنها تتقلص استحالتها كلما انتظمت اللغة في خطابات أكبر من العبارة، كالنصوص مثلا، محكية كانت أم شعرية أم نقدية. وفي هذا الإطار يستعير ريكور من أرسطو مصطلح الميثوس الذي يعني الخرافة أو الحبكة، وذلك بغاية تحديد عمارة التركيب اللفظي لأي نص حكائي.
لقد وجهت موضوعة الحبكة كل الجهود الذي بذلها ريكور في أثناء بحثه في التاريخ، والملحمة، والقصة الشعبية، والرواية الحديثة. لأجل ذلك، نجده يقف عندها معرفا إياها قائلا: «الحبكة هي مجموع التنسيقات التي تتحول من خلالها الأحداث إلى حكاية […] إن الحبكة هي الوسيط بين الحدث والحكاية[…] ذلك أن الحدث ليس مجرد حادثة أو شيء يقع بل هو مكون سردي». ولعل الكفاية القادرة على رصد ومتابعة هذه الترسيمة (أي الخطاطة السردية)، والمسماة حبكة، ستمكن صاحبها، لا محالة، من الفهم.
ولما كان الحكي هو سرد لتاريخ بشري، سمته الأساس اللّاتجانس، فإن الحبكة، كوحدة سردية، هي وحدها القادرة على أن توحد بين هذه العناصر اللامتجانسة لتجعل منها « كلية واضحة مفهومة».
لقد اعترض ريكور على الزعم القائل بأن تطور الرواية المعاصرة إعلان صريح عن عدم كفاية الحبكة في وصفها للأحداث السردية. فكل هذه الآراء أساءت فهم وتحديد العلاقة بين البرادغم (الصوغ الحبكي) والعمل الأدبي المتميز. فالبناء الحبكي الرائع، هو نتاج للتراكمات التي حققتها الممارسة السردية نفسها، ومن ثم فإن للخطاطة السردية بعدا كرونولوجيا يتناوب فيه التجديد والترسب الاستقراري. إن الانحراف عن المألوف الحاصل في الحالة الأولى (التجديد) لا يتم إلا على خلفية نقدية.
وأما بخصوص مسألة التعارض بين واقعية التاريخ ولا واقعية التخييل، على اعتبار أن للتاريخ مرجعية وأن التخييل لا مرجعية له، فإن ريكور يرى في الحبكات المبدعة قدرة كبيرة على استخلاص التجربة البشرية الزمنية المضطربة، « إن الوظيفة المرجعية للحبكة، تكمن داخل قدرة التخييل على تشخيص تلك التجربة الزمنية شبه الخرساء».
والحاصل إن عالم النص (التخييل)، يدخل في صراع مع العالم الواقعي (التاريخ)، إما من أجل إثباته أو نفيه. إلا أن العمل الفني الرائع، هو ذاك الذي يقلق علاقتنا بالواقع، ويجعل اللغة تبدو «خطيرة «، بتعبير هولدرلين قبل نيتشه.
٭ شاعر وناقد مغربي
محمد الديهاجي