الأحوال صعبة كما تعلم وتعيش، ولذلك لا أنصحك بأن تجيء بسيرة حديث المفكر الإيطالي غرامشي عن «تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة»، إلا أمام من تثق في سيطرته على انفعالاته، لأن كلمة التفاؤل أصبحت مثيرة للغضب، ولن يجدي ربطها بالإرادة أو بتشاؤم العقل، وإذا كنت مصمماً على استخدام عبارة غرامشي للتعبير عن موقفك الرافض لليأس والاستسلام، فيمكن أن تستبدلها بما قاله المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي مؤخراً، حين سُئل لماذا يقوم بتغليب التفاؤل على اليأس، رغم كل ما يطرحه في كتاباته من حقائق كارثية عما يفعله الإنسان بالأرض، فأجاب: «نحن أمام خيارين، بإمكاننا أن نكون متشائمين ونستسلم، ونساعد في ضمان أن الأسوأ سيحدث، أو يمكننا أن نكون متفائلين ونتمسك بالفرص التي هي موجودة بالتأكيد، ولو عملنا على استخدامها بأفضل ما يمكن، فربما نساعد في جعل العالم مكاناً أفضل، ليس لدينا الكثير من الخيارات».
حين قرر أحد محاوري تشومسكي أن يجمع سلسلة حواراته معه في كتاب صدر في الربيع الماضي، اختار للكتاب عنوان «التفاؤل يغلب على اليأس»، مستنداً إلى تأكيدات تشومسكي على أن «مقاومة الظلم والاستغلال لم تكن أبداً مشاريع عقيمة حتى في أوقات أكثر صعوبة من زمننا الحالي»، لكن الناشر العربي رأى ربما استحالة أن يهتم أحد بكتاب يحمل عنوان التفاؤل، في ظل ما يعيشه العالم العربي، فاختار للكتاب عنوان «العالم إلى أين؟» وهو عنوان لن يهتم به القارئ الضّجِر الذي ربما سئم من الكتب التي تجمع حوارات تشومسكي وتصريحاته، والتي ستدفعه للتساؤل عما إذا كان لدى تشومسكي جديد يقدمه في الكتاب، وهو سؤال مشروع إجابته بالنفي، إذا كنت تنتظر إجابات قاطعة عن مصير العالم، وإجابته نعم هناك جديد، إذا كنت ستتأمل الأفكار والتفاصيل وزوايا الرؤية، التي يحشدها تشومسكي في إجاباته المثيرة للمزيد من الأسئلة التي لا تقبل تأجيل طرحها.
يتخذ تشومسكي من لحظة فوز ترامب برئاسة الولايات المتحدة، مدخلاً للتذكير بما كتبه منذ سنوات محذراً من خطر صعود زعيم مؤثر في الجماهير الأمريكية، يستغل غليان الغاضبين والخائفين، ليوجهه بعيداً عن المسببين الحقيقيين للمحنة، نحو أهداف وفئات أكثر هشاشة وحساسية، وهو ما أطلق عليه الباحث في علم الاجتماع بيرترام غروس قبل 35 سنة تعبير (الفاشية الودودة). لكن تشومسكي يرى أن تحقيق ذلك الخطر بالكامل، يتطلب أيديولوجياً صادقاً من طراز هتلر، وليس شخصاً أيديولوجيته الوحيدة هي «أنا»، ومع ذلك تبقى المخاطر قائمة في ضوء وضوح حجم القوى التي أطلق لها صعود ترامب العنان.
يتحدث تشومسكي عن طبيعة العقلية التي تحكم أمريكا والعالم في هذه اللحظة من التاريخ، حيث يسيطر الأغنياء والأقوياء على مقاليد الأمور، مخالفين حتى منطق الرأسمالية التي يدعون تبنيها، ويهاجمون معارضيهم على أرضيتها، ليخلقوا «دولة مستبدة محافظة» هدفها الوحيد هو تأمين ودعم مصالح قطاعات الأقوياء وأصحاب الامتيازات في المجتمع، فيما يُترك باقي الشعب ليختبر الواقع المؤلم للرأسمالية، وهو ما يمكن توصيفه بـ«الاشتراكية للأغنياء والرأسمالية للفقراء»، في حين تصبح الديمقراطية مجرد قشرة لتجميل هذا الواقع البائس، الذي يصنع الأغنياء فيه طرقاً عديدة لحماية أنفسهم من قوى السوق، في حين يخضع الفقراء للخراب الذي تحدثه تلك الطرق.
يرفض تشومسكي اعتبار هذا الوضع مرتبطاً فقط باللحظة الراهنة، ولا يكتفي بتحديد مسؤوليات إدارتي أوباما وكلينتون عما وصلت إليه الأحوال، بل يعود إلى جذور تأسيس النظام السياسي الأمريكي وفكر مؤطره الأساسي جيمس ماديسون، الذي شعر بأن النظام السياسي الأمريكي لا بد أن يكون في أيدي أصحاب الثروة لأنهم «المجموعة الأكثر تحملاً للمسؤولية من الرجال»، ليصبح أكبر هم للنظام السياسي هو حماية الأقلية الغنية من الغالبية الفقيرة، التي يمكن أن تنظم نفسها لتأخذ ملكية الأغنياء، ولذلك رأى ماديسون وجوب إعداد النظام الدستوري بأسلوب يمنع الديمقراطية، متأثراً بما قاله أرسطو في كتابه «السياسة»، لكن ماديسون والآباء المؤسسين لم يعتمدوا الحل الذي اقترحه أرسطو، وهو تحقيق دولة رفاهية تهدف إلى تقليل غياب المساواة الاقتصادية، بل اختاروا بديل تقليل الديمقراطية، ومنح نظامهم سلطة أكبر لمجلس الشيوخ الذي لم يكن ينتخب في أيامهم، بل كان يختار من الأثرياء المتعاطفين مع مالكي الثروة والأملاك الخاصة، بنص كلمات ماديسون، ومع ذلك لم تستسلم الطبقات الدنيا في المجتمع الأمريكي، بل قاومت محاولة النخبة التحكم والسيطرة على المجتمع، واستمرت في الصدام والضغط من أجل حرية وديمقراطية أكثر، وهو ما يمكن في ظله تفسير ارتفاع عدد الميالين إلى ترامب في جهة وبيرني ساندرز في جهة أخرى، لأن هؤلاء جميعاً كانوا يعبرون عن إحساس عميق باليأس والغضب والخوف والرغبة في تغيير الأوضاع القائمة بأي ثمن.
في فصل يخصصه المحاور لمناقشة ظواهر تدخل الدين في السياسة المعاصرة، تطرق الحديث إلى ظاهرة الإلحاد الجديد، التي تساءل تشومسكي عمن تستهدفه بالفعل، هل جورج دبليو بوش، الذي استحضر معتقداته المسيحية الأصولية لتبرير غزوه العراق؟ أم كبار الحاخامات في إسرائيل ممن يدعون إلى تدمير الفلسطينيين بالكامل؟ أم الأصوليون الإسلاميون المتعصبون الذين كانوا حلفاء مهمين لواشنطن في الشرق الأوسط لخمسة وسبعين عاماً؟ مؤكداً أنه من الجيد القيام بمبادرات ثقافية تهدف إلى تشجيع الناس أن يتساءلوا عن المعتقدات غير العقلانية، لكن على هؤلاء إن كانوا جادين وراغبين في التغيير، أن يستهدفوا أيضاً «الديانات العلمانية الخبيثة القائمة على عبادة الدولة، التي تتنكر في خطابها بالأهداف النبيلة والمميزة، والتي هي مصدر الجرائم الكبيرة والمتكررة».
يرى تشومسكي أن أهم قضيتين تواجهان البشر على الإطلاق الآن، هي القضايا التي تتعلق ببقاء النوع: الحرب النووية والاحتباس الحراري، لأن سياسات ترامب تثبت أهمية فتح ملف التسلح النووي، الذي كان يعتقد البعض أن التحذير منه مجرد تزيد في الخوف والقلق، فأصبحوا يدركون أن العالم يمكن أن ينفجر في لحظة حين يصل إلى مواقع السلطة خصوم متبجحون، في الوقت نفسه يبدو ترامب مصمماً على قيادة العالم إلى الهاوية، بما يتخذه من إجراءات كارثية في مجال حماية البيئة، يدعمها فيه مهاويس ومتعصبون أشرار تاقوا دائماً إلى حكومة دينية مسيحية متطرفة، إجراءات يمكن لتداعياتها أن تحدد حرفياً فرص البقاء الإنساني المحترم، لكي لا يحدث دمار للنوع من المستوى الذي حدث قبل 65 مليون عام وأنهى عصر الديناصورات.
يسأل المحاور نعوم تشومسكي عما تغير في فهمه للعالم عبر الزمن، خاصة بعد أن أصدر مؤخراً كتاباً يجمع مقالات مكتوبة بين عامي 1969 و2013، فقال إن طريقة فهمه للعالم تتغير مع تعلمه أكثر من الماضي وإعادة التفكير في ضوء المعلومات الجديدة، لكنه وسط كل ما يتغير ويستجد لا يزال يعتقد أن السلطة الهرمية والتعسفية ستبقى مصدر جميع الشرور في عالمنا، وإذا كنت تعتقد أن إجابة تشومسكي لا تحمل أي جديد، فأنت لست محتاجاً إذن إلى قراءة كتبه ولا كتب غيره، بل إلى التفكير في ما يمكن أن تفعله لتغيير واقعك بما استطعت، بعيداً عن ثنائيات اليأس والأمل والتفاؤل والتشاؤم، لأنك لا تملك ببساطة بديلاً عن ذلك.
…
ـ «العالم إلى أين» نعوم تشومسكي في حوارات مع سي جي بوليكرونيو ـ ترجمة ريم طويل ـ دار الساقي
٭ كاتب مصري
بلال فضل
الامور فعلا معقدة نحن نؤمن بمعتقدات وتتغير ليس بتغيرنا بل بتغير المعطيات التي جعلتنا نعتقد بها
وبالنسبة لقضايا البشر فلقد اتفق العالم ضمنيا وليس علنيا ان تنقل الحرب على غير ارضهم او ان تصبح الحرب بيلوجية بحت
اما ظواهر تدخل الدين بالسياسة فمصدرها تزوير التاريخ على مر الاديان ففي كل ديانة المتطرف والمحايد والمعتدل بحق واكثر الخوف من المحايدين الذين يتتقلون بين الطبقتين لاغراضهم السياسية وتتغير التنقلات بتغير الاوضاع مما يحدث فسادا بين اوساط المعتدلين وظهورا مخيفا للمتطرفين بحيث ينتقل التطرف منهم للاخر …
اما طبيعة العقلية الامريكية فهي ثبات لا تتغير واما تغير حاكميها بقناع ديمقراطي لتحقق اهداف ويتوالى الرؤوساء على حسب اولويات تلك الاهداف ..اما بالنسبة للتفاؤل فنحن نتشاؤم بدون منطقية ونتفائل بدون عقلانية
وتحية لاختياراتك الادبية أستاذ بلال