الاعتماد على معادلة المال والأمن أسقطت الشعب من الحساب!

غابت السياسة فازداد القلق بين الناس.. ويبدو أن هناك تصورا يرى أن توفير المال وضبط الأمن؛ كافيان للاستقرار والأمان. ولا ينكر أحد أهمية هذين العنصرين.. وجربت مصر ذلك مع حكم سبق؛ طلق السياسة، واستبدل التنمية بالاستثمار، وأحل السوق العشوائي محل التخطيط الواعي.. ونشر الفقر بديلا للكفاية.. واستبدل الانتاج بالاستيراد.. وأهمل التصنيع اعتمادا على السياحة والسمسرة والمضاربة والاستيراد، وما يجود به أباطرة المال ولصوص أراضي الدولة وحيتان الاقتصاد الأسود..
وهذا وضع قائم منذ حكم «الرئيس الموازي» جمال مبارك.. ومشكلة من جاؤوا بعده أنهم لم يتعلموا «من رأس الذئب الطائر»؛ ويقول حكماء الصين: «إن وقعت في حفرة فتبا لها.. وإذا وقعت فيها مرة أخرى فتبا لك».. ومعادلة المال والأمن مجربة؛ وحالت دون أداء المال لوظيفته الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية، وتجاوز الأمن وظيفته القانونية والدستورية والإنسانية.. وترعرعت «الدولة البوليسية» في رعاية وكنف حكم عائلة مبارك.. وها هي تطل برأسها مجددا، على أمل أن تعيد عقارب الساعة إلى الوراء.
ومعادلة المال والأمن بدت من حرص الحكومة وسعيها للحصول على المال بكل الوسائل؛ بالجباية، والمعونات الخليجية، والمؤسسات المالية والاقتصادية الغربية، وبمساومة «أباطرة المال» على جزء مما استولوا عليه مقابل التصالح.. وعملت الجهات المعنية على أن يكون المال «معقما» من الثورة والسياسة، وإذا أمكن «تعقيم» المال من الثورة، فلا يمكن «تعقيمه» من السياسة، التي لو غابت لعبرت عن مصالح سرية.. وليس هناك ريال أو دينار أو دولار لا تقف وراءه مصلحة.. والسياسة ليست من قبيل الإحسان وأعمال البر.. والحرص على طلب المال وتوفير الأمن أكبر بكثير من حشد واستغلال الإمكانيات والموارد الطبيعية والبشرية والإنتاجية التي تتمتع بها مصر، والمال والأمن وحدهما لا يصنعان تنمية، ولا يبنيان تقدما، ولا يحققان كفاية، وهذه المعادلة أعادت إنتاج نظام مبارك وأبقت خياراته معتمدة وسارية!
كانت الخيارات خليطا وهجينا؛ من فاشية المسيحية الصهيونية وعنصرية المحافظين الجدد في أمريكا، ومن يمينية العمال الجدد في بريطانيا تحت قيادة توني بلير، وبها توحدت الليبرالية والرأسمالية والعنصرية، وصار ذلك وجها آخر من وجوه «ما بعد العولمة» وظف آليات الليبرالية؛ التنظيمية والتعبوية لخدمة هذا الخليط والهجين، ونرى أن الأخذ بهذه الآليات مفيد بشرط التوطين والتعريب، وذلك قد يسمح مستقبلا بقيام نظام ديمقراطي متوازن، وأكثر تحررا وإنسانية بعيدا عن ذلك الرابط بين واشنطن ولندن وتل أبيب وعدد من العواصم العربية والإسلامية والإفريقية، وهو الذي ضمن ضبط ميزان القوى في غير صالح الثورة أو التغيير الشامل، الذي يحتاجه الوطن العربي. وإذا ما استقامت الأوضاع فهذا النظام المأمول يتوفر بإعمال العقل المبدع والاجتهاد الواعي بالتاريخ والانفتاح على التراث الإنساني.. والشرط هو أن يكون تفكيرا «خارج الصندوق» كما يقال.. فيعاد النظر في بنية الأحزاب والجماعات السياسية، كي تعبر عن مصالح اجتماعية ومطلبية حقيقية؛ تتجاوز أناشيد الأطفال وهتافات وشعارات طابور الصباح في المدارس، وكانت المادة التي اعتمدت عليها الأحزاب على مدى عام كامل.. ويمكن لتلك البُنَى إذا ما تغيرت أن تتحالف فيما بينها، وتتقاسم «غنائم» الحكم؛ كل بما حصل عليه من مقاعد برلمانية، ورغم الأزمة الشديدة فقد يتجاوز العقل العربي خموله ويقدم نموذجا ديمقراطيا من خارج القوالب والأنماط التقليدية.. وهناك تفاصيل في هذا الشأن قد تجد فرصة للشرح والتفصيل والتأصيل مستقبلا.
وطبقت الانتخابات النيابية الأخيرة عمليا وميدانيا معادلة المال والأمن، وكانت الحصيلة سلبية للغاية؛ كشفت المخزون الضخم للشوفينية والانعزالية والعشائرية والطائفية والمناطقية، وليس هناك من يتنبه ويتحسب لخطر هذا القصور الذي كشف أنها معادلة عجز؛ تتغذى على ثقافة تدمر المجتمع، وتخرب عقول الشباب، والأخذ بهذه الثقافة كفيل بإضعاف المناعة، وزيادة الاضطرابات والمتاعب قد تعصف بتماسك بلد مثل مصر، وهذا التماسك مكنها من التغلب على الصعاب وتجاوز المحن على مر التاريخ..
وهناك استفزاز واضح وفاضح مع استمرار النهب؛ خاصة في مجال الثروات المعدنية، واستحلال الأموال العامة.. وقبول الابتزاز بحجة أن «رأس المال جبان».. وتم كل هذا الخراب بالجبن فما بالنا لو امتلك الشجاعة؟ وعليه فإن «الجبن» الرأسمالي يحتاج لمن يطمئنه، ويلبي طلبه ويقبل شروطه، ويضعه فوق القانون.. وبهذايحال بين المال وبين وظيفته الاجتماعية والإنسانية، التي بدونها يتحول العالم إلى غابة.
وما يتبدى في هذه اللحظة أن ولاة الأمور ينهلون من بئر لوثته نظريات وأفكار «المثقفين الجدد»، الذين تشربوا «ثقافة»، السمسرة، وقد تخصص فيها «الرئيس الموازي» من عمله في المصارف الأجنبية، فمكنته من بيع ديون مصر، فانتقل من شاب عادي إلى مالك بالملايين، وبها ملك «ناصية الثقافة والفكر» العشوائي.. والحكم العائد يراهن على هذه الثقافة العشوائية، فيتغلب على مشاكل مصر المعقدة.
ونعرض لنماذج ثلاثة نتعرف من خلالها على تأثير هذه المعادلة، على مسار الحكم، أما الأحزاب فدورها قادم..
النموذج الأول‫..‬ وزير العدل‫؛‬ رجل له أكثر من وجه‫؛‬ وجه ملياردير محسوب على ‫»أباطرة المال‫»؛ بالمصلحة والفكر والانحياز‫..‬ وهو الأكثر تشددا بينهم، لا ينازعه إلا ‫»تايكون‫»‬ المقاولات حسين صبور‫، ‬وكقاضي يرى أن القضاة ‫»آلهة في الأرض‫»؛‬ وهو أحد هؤلاء الآلهة، ومنحاز للثورة المضادة،‫ ‬ومؤيد لتوريث مهنة القضاء، ولم يقبل بتعيين غير أبناء القضاة في السلك النيابي والقضائي، ومن أقواله‫:‬ ‫»‬نحن أسياد على هذه الأرض وغيرنا عبيد‫»..‬ وتناقلت مطبوعات ومواقع ألكترونية مزاعم حول الذمة المالية وعن أعمال سمسرة. والناس في انتظار رأي القانون؛ البراءة أو الإدانة‫!!..‬ ومن المتوقع أن تؤثر عليه قناعاته ‫»‬الداعشية‫»‬ تأثيرا بالغا؛ حين يطالب بتطبيق الحدود والقصاص خارج القانون كما ‫»‬قررته الشريعة السمحاء‫»، و‫»أنه من غير المقبول أن يقال بلاش أصل الغرب بيزعل‫»..‬ على حد قوله‫..‬ ويرى ‫»‬أن ثلاثة أرباع المستثمرين تم حبسهم ظلما‫»‬، ولهذا يتولى ملفهم بنفسه معتمدا على العرف والعلاقات الخاصة‫..‬ ويرى أن ‫»‬الحقد على المستثمرين هو أحد أهم العوائق في طريق تنشيط الاستثمار وحل المشاكل‫».
والنموذج الثاني هو انتخابات «اتحاد طلاب مصر» وتنافست عليها كتلتان؛ واحدة وجدت المساندة من الأمن ووزارة التعليم العالي، وتقدمت كتكتل حمل اسم «صوت طلاب مصر»، والثانية ضمت نشطاء مستقلين؛ كان كثير منهم ينتمون لشباب ثورة 25 كانون الثاني/يناير 2011،.وحين فازت هذه الكتلة تعطل إعلان النتيجة، بدعوى استيفاء الطعون.. وانتظارا لطعن يأتي من جامعة إقليمية لتبرير التعطيل. وإذا قيل أن الرئيس لا يعلم فتلك مصيبة، وإن كان يعلم فالمصيبة أعظم!!.. ويبدو أن الأمر لا علاقة له بعلم الرئيس أو عدم علمه.. حتى يعرف السر الذي جعل وزير الداخلية يطيح باللواءات والمسؤولين الذين تولوا هذا الملف الشائك!!
والنموذج الثالث هو دور الأمن في تشكيل قوائم وأحزاب دخلت الانتخابات النيابية، وفي تصريح لأحد رجال الرئيس السيسي، وكان من قادة حملته الرئاسية؛ قال: قائمة «في حب مصر».. ولدت بمبنى المخابرات العامة في 3 فبراير 2015، وأبلغه أحد مساعدي الرئيس بأن «حزب مستقبل وطن» أسسته المخابرات الحربية ككيان شبابي يدعم الرئيس – على حد قوله(!!).
كان هذا بعض آثار الاعتماد على معادلة المال والأمن.. وهناك مايقال عن أحزاب عرفناها بـ»أحزاب أنابيب»؛ على طريقة أطفال الأنابيب.. فما هذا الذي يقال؟!.. ننتظر لنرى!!

٭ كاتب من مصر يقيم في لندن

محمد عبد الحكم دياب

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية