الاقتصاديات المغاربية والسياقات السياسية

حجم الخط
0

الرباط – «القدس العربي»: مرت الدول المغاربية في السنوات الثلاث الأخيرة بعدة محطات سياسية واجتماعية أثرت بنسب متباينة على اقتصاديات هذه الدول. وفي بلدان كالمغرب والجزائر وتونس، حيث تقدر نسبة الشباب دون 35 بأكثر من 75 في المئة من مجموع السكان، تظل التحديات الاقتصادية كبيرة في مناخ سياسي عرف حركية بسرع متفاوتة الثابت فيها صلة وصل قوية بين الإستقرار السياسي والنمو الاقتصادي.
وشهد المغرب ابتداء من 20 شباط/فبراير حراكا اجتماعيا كان من أبرز مطالبه محاربة الفساد بربط المسؤولية بالمحاسبة. إلا أن رئيس الوزراء عبد الإله بن كيران صرح بعد أشهر من توليه منصبه بقوله «عفا الله عما سلف» لتجنب كل ما من شأنه التأثير على سير عجلة الاقتصاد. متبنيا في المقابل خفض الدعم وإعادة هيكلته.
وصنفت مؤسسة التراث الأمريكية «Heritage Foundation» في تقريرها السنوي حول مؤشر «الحرية الاقتصادية» العالمي بالشراكة مع صحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية، المغرب في المرتبة 103 من بين 178 دولة شملها التقرير، بمعدل نقاط بلغ 58.3، متراجعا بـ 13 درجة. حيث أحتل المرتبة 90 العام الماضي، بعدما كان في المرتبة 87 سنةَ 2012.
وعزت المؤسسة الأمريكية، سبب الإنخفاض إلى تراجع حرية التجارة وعدم التحرر من الفساد، وإنحسار الحرية النقدية. موردة أن «المغرب في المرتبة 10 من أصل 15 بلدا في منطقة الشرق الأوسط/شمال أفريقيا، ورصيده الإجمالي هو أقل بقليل من المتوسط ​​العالمي. وقد كان مصنفا ضمن الدول معتدلة الحرية لينتقل بسبب هذا التراجع إلى صفوف الدول غير الحرة في الغالب». وذكرت المؤسسة أن المغرب «حاول إدماج اقتصاده في السوق العالمية، ولكن التقدم العام نحو المزيد من الحرية الاقتصادية كان متفاوتا. وشملت التحديات الحرجة انتشار الفساد والإنفاق الحكومي المرتفع نسبيا حيث شهد الإنفاق الاجتماعي ارتفاعا ردا على ضغط الربيع العربي واستمرار العجز في الميزانية. كما ارتفع الدين العام إلى ما يقرب من 60 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. ولا يزال النظام القضائي غير فعال وعرضة للنفوذ السياسي». مضيفة أن «للمغرب صناعة سياحية كبيرة وقطاعا صناعيا تحويليا ناميا. وتشكل الزراعة نحو 15 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وتوظف ما يقرب من 45 في المئة من القوة العاملة. وترتفع أسعار الوقود، المدعمة بشكل كبير، مما قد يفاقم العجز في الحساب الجاري».
وكشف التقرير السنوي للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي (هيئة دستورية استشارية تنجز دراسات اقتصادية)، عن العديد من الاختلالات التي تعيشها الفئات الاجتماعية في المغرب، معتبرا أن «السياسات الاجتماعية المعتمدة لم تحد من الهشاشة والفوارق الحادة». وأشار الى أن الزيادات المتكررة للأسعار في المحروقات والتي اتخذتها الحكومة على مدى سنتين، لم يكن لها بالغ الأثر على الإصلاحات الهيكلية التي وعدت بها الحكومة، مبرزا أن «التدابير المتخذة من أجل التحكم في غلاف الدعم لم تندرج في إطار إصلاح شامل لنظام المقاصة (صندوق الدعم)». موضحا أن الإصلاحات لم تأخذ بعين الاعتبار المخاوف المتصلة بالحفاظ على القدرة الشرائية للفئات الهشة، وتعزيز التماسك الاجتماعي والحفاظ على القدرة التنافسية للمقاولات، مسجلا بنوع من الأسف أن الإصلاح الضروري لنظام التقاعد والذي وصل حافة الإفلاس لم ينطلق بعد. وسجل التقرير، في هذا الاتجاه، تقليصا ملموسا لعجز الميزانية من 7.3 سنة 2012 إلى 5.4 سنة 2013 بفضل تطبيق نظام المقايسة في أسعار المحروقات، موضحا أن المستوى المرتفع لهذا العجز يتطلب تعبئة جيدة للمداخيل، وتحكما أكبر في النفقات العمومية، وكذا مواصلة إصلاح آليات دعم الأسعار.
والجزائر، التي لم تتأثر برياح «الربيع العربي» ظل اقتصادها معتمدا على مداخيل النفط والغاز التي تشكل ما يناهز 97 في المئة من الصادرات. ويشير عدد من الخبراء الاقتصاديين والمؤسسات الدولية إلى ضرورة تركيز الجزائر على تنويع اقتصادها، ذلك أن أي انخفاض في أسعار النفط كما حصل في تسعينيات القرن الماضي يعرض البلاد لأزمة عنيفة.
وتتوقع وزارة المالية الجزائرية أن يحقق الاقتصاد نموا بنسبة 4.5 في المئة هذا العام بناتج محلي إجمالي قدره 227.3 مليار دولار، مع نسبة نمو بلغت 3 في المئة سنة 2013 و3.3 في المئة في 2012. غير أن النمو خارج قطاع المحروقات سيظل منخفضا حيث سيستقر ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي خارج القطاع عند 5.4 في المئة هذا العام، مقابل 6.35 في المئة العام الماضي و7.1 في المئة عام 2012. وأوضحت الوزارة أن مستوى النمو المتوقع لهذا العام مرتبط من حيث القيمة المضافة بقطاع المحروقات الذي ستبلغ حصته في الناتج المحلي الإجمالي 2.6 في المئة بعد سنتين متتاليين انخفض فيهما المؤشر إلى ما دون الصفر سنة 2013 (3.9- في المئة) و2012 (3.4- في المئة)، وهما سنتان شهدتا انخفاضا في إنتاج النفط والغاز. ويتوقع أن يشهد قطاع البناء والأشغال العمومية، ثاني رافعة لنسبة النمو، انخفاضا أيضا يقدر بـ6.8 في المئة مقابل 7.8 في المئة سنة 2013. كما سينخفض نمو القطاع الزراعي في الجزائر إلى 6.4 في المئة بعد أن بلغ 10 في المئة سنة 2013. بينما سيسجل القطاع الصناعي نموا طفيفا بنسبة 5 في المئة مقابل 4.9 في المئة العام الماضي.
وكان رئيس بعثة صندوق النقد الدولي قد دعا أثناء زيارته للجزائر سلطات البلاد إلى ترشيد الإنفاق وتقليص الاعتماد على الإيرادات النفطية، موضحا أن «مواصلة الجزائر الإنفاق العمومي بالوتيرة الراهنة قد يرفع حجم المديونية إلى ما يعادل 100 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول العام 2050». وتستبعد الحكومة الجزائرية تفاقم الدين العام في ظل وجود صندوق ضبط الإيرادات، رغم تنبؤ وزير المالية بتسجيل عجز بالميزانية يناهز 18 في المئة في 2014، لأن الخزينة العمومية يمكنها تحمل ذلك بطرح سندات في السوق من أجل تغطية العجز أو الاعتماد على موارد صندوق ضبط الإيرادات. والتي تقدر بـ80 مليار دولار، بينما تقدر احتياطيات النقد الأجنبي بنحو 200 مليار دولار.
وتعاني الجزائر من صعوبة في جلب الاستثمارات بسبب قاعدة الاستثمار على أساس 49 في المئة للمستثمر الأجنبي و51 في المئة للمستثمر المحلي، مع تسجيل فشل للرأسمال الوطني في تحريك عجلة الاقتصاد. وقد اقترح اقتصاديون السنة الماضية اعتماد الاقتصاد الإسلامي كمخرج لأزمة اقتصاد الجزائر المعتمد كلية على قطاع المحروقات، مبررين ذلك بإقبال الجزائريين الكبير على البنوك الإسلامية القائمة على اقتسام الربح والخسارة مع عملائها بينما تعتمد البنوك التقليدية على نسبة الفائدة. غير أن التيار الفرنكفوني يعارض هذا الأمر بشدة، بينما يخضع مشروع قانون البنوك الإسلامية في المغرب لتجاذبات سياسية في ظل وجود حزب إسلامي على رأس الحكومة.
وتبلغ حصة البنوك الإسلامية بالجزائر 2 في المئة فقط، وحسب خبراء فإن الصناعة المالية الإسلامية بحاجة إلى تعزيز بنيتها التحتية وإلى صياغة الإطار التشريعي التنظيمي الرقابي الكفيل بتوفير المناخ الملائم لنموها. وقد فتحت الجزائر المجال للاستثمار في هذا النوع من الخدمات منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي. إلا أن التجربة تظل متواضعة، فعددها لا يتجاوز الاثنين. إلا أن خبراء يشيرون إلى أن القطاع البنكي الإسلامي له قدرة كبيرة على التطور والتموقع حيث تسجل البنوك الإسلامية نسبة نمو أكبر من نسبة متوسط نمو القطاع البنكي الإجمالي، لتقديمه بدائل متعددة تلبي احتياجات السوق وبالتالي إنعاش الاقتصاد بجلب المزيد من المتعاملين الاقتصاديين والمدخرين.
وذكر التقرير السنوي لمنظمة العمل الدولية أن نسبة البطالة في الجزائر سنة 2014 بلغت 9.7 في المئة. وبحسب التقرير، فإن البطالة لم تتراجع خلال 18 سنة سوى 1 في المئة بسبب فشل الإصلاحات الاقتصادية وعجزها عن خلق مناصب شغل. حيث يعاني الاقتصاد الجزائري من خلل بين القطاعات، فالزراعة ما زالت تشكل 4 في المئة فقط من الناتج المحلي الإجمالي.
في تونس، مهد ثورات «الربيع العربي» دخلت البلاد بعد وصول حركة النهضة للحكم موجة احتقان واضطرابات سياسية أضرت كثيرا بالاقتصاد التونسي.
وعلى عكس الجزائر، خفضت وزارة المالية التونسية توقعها للنمو الاقتصادي إلى 2.8 في المئة انسجاما مع توقعات صندوق النقد الدولي. موضحة أن مراجعة النمو أملاها الوضع الاقتصادي العالمي، وسياق عملية التحول الداخلي. ما فرض نوعا من الواقعية، وكانت نسبة النمو السنة الماضية 2.6 في المئة. بينما تتوقع السلطات أن تبلغ النسبة 4 في المئة في 2014. وسبق للحكومة أن قلصت توقعاتها للنمو العام الماضي مرتين بسبب صعوبة الوضع الاقتصادي داخليا وخارجيا.
وتواجه تونس تحديات عديدة، منها خفض العجز الكبير في الموازنة، وإصلاح منظومة دعم الأسعار، وتقليص الإنفاق الحكومي. ويتوقع النقد الدولي أن يصل عجز الموازنة التونسية إلى 8 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العام الجاري، مقارنة بنسبة 8.4 في المئة العام الماضي.
وكان مهدي جمعة، رئيس الحكومة التونسية، قد قام بجولة خليجية قبل أشهر شملت الإمارات والسعودية وقطر والبحرين والكويت. وذلك لاستقطاب المزيد من الاستثمارات الخليجية، وقد أشار إلى أن الدولة تعاني من صعوبات كبيرة في توفير موارد مالية نتيجة اتساع نطاق الإنفاق العام.
واقترضت تونس 220 مليون دولار لصرف أجور شهر نيسان/أبريل الماضي في ظل الحكومة الجديدة التي اعترف رئيسها بتفاقم العجز التجاري بما يقارب 630 مليون دولار. وكانت وزارة المالية التونسية قد لجأت إلى إكتتاب وطني بسندات خزينة لتغطية جزء من الإحتياجات المالية لميزانية الدولة لعام 2014 وتمكنت من جمع ما يناهز 566 مليون دولار وكان الهدف من عملية الاكتتاب، التي انطلقت شهر أيار/مايو وتواصلت إلى 13 من حزيران/يونيو الماضي، هو جمع نصف هذا المبلغ فقط. وقد شارك التونسيون المقيمون خارج البلاد أيضا بالاكتتاب، وأوضح جمعة أن جزءا من المبلغ سيتم توجيهه لتغطية الاحتياجات المالية لميزانية الدولة لعام 2014 وخاصة الاستثمار. وهذه المرة الثالثة التي تطلق فيها تونس عملية الاكتتاب الوطني بسندات خزينة منذ استقلالها عن فرنسا عام 1956. وتواجه البلاد مصاعب اقتصادية ونقصا في السيولة المالية بسبب تداعيات حالة عدم الاستقرار الأمني والسياسي والاجتماعي التي شهدتها البلاد بعد الإطاحة بنظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي مطلع العام 2011. وتلا الاكتتاب قرض أمريكي لتونس بقيمة 500 مليون دولار.
ويعاني الاقتصاد التونسي أيضا من البطالة وتراجع الاستثمارات، وكانت تونس طلبت مساعدة من صندوق النقد الدولي الذي منحها في حزيران/يونيو 2013 قرضا بقيمة 1.7 مليار دولار على مدى سنتين. وخفضت آمال كربول، وزيرة السياحة التونسية، توقعاتها لعدد السياح الوافدين على تونس هذه السنة مشيرة إلى أن الرقم المتوقع لعدد السياح لهذا العام هو 6.4 مليون سائح استنادا إلى الحجوزات، وهو أقل من الرقم الذي حددته الوزارة بداية العام في 7 ملايين سائح. ويزيد الرقم الجديد المتوقع قليلا عن الرقم المسجل العام الماضي وهو 6.3 مليون سائح. أما الاستثمار الأجنبي في تونس فشهد بدوره تراجعا مستمرا رغم الانفراج السياسي الذي عرفته البلاد مطلع هذا العام بعد إقرار الدستور وتشكيل حكومة مستقلة، وبلغت قيمة الاستثمارات الخارجية المباشرة مطلع هذا العام نحو 115 مليون دولار، بتراجع بنسبة 33.9 في المئة مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي بحسب وكالة النهوض بالاستثمارات الخارجية الحكومية.

مصعب السوسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية