سعى عدد من الباحثين الغربيين في أوائل التسعينيات من القرن الماضي إلى مواجهة الأساطير الشائعة والمبسّطة عن التطرف والفقر والجمود، الذي ألحق تشويهاً بالغاً بتعقيدات الحياة السياسية والاجتماعية داخل مدن الشرق الأوسط.
وبدلاً من الانسياق وراء النظرة الضيقة لكل من الاتجاه العام للسياسة والأساليب الجافة لمناهج علم الاجتماع (العقلانية والإيجابية والاستشراق الجديد) ذهب هؤلاء الباحثون إلى إنتاج مقاربات أكثر عمقاً حول الاقتصاد المكاني الجديد والمتغير للمدن داخل الشرق الأوسط، من خلال إعادة تعريف المجال العام الجديد لهذه المدن، عبر التركيز على العمل الميداني بدل الارتكاز على السجلات الرسمية والأعمال الفكرية، وهو ما أتاح لهم أن يستمعوا ويتأملوا بآذان وعيون نقدية وجهات نظر الطبقات المهمشة، الذين لا تصل أصواتهم وممارساتهم للسجلات العامة، وعادة ما يساء فهم ممارساتهم، أو ينظر إليهم بعين الاحتقار، أو التجريم، أو يتم تجاهلهم كلياً. ويعد كتاب «القاهرة مدينة عالمية: عن السياسة والثقافة والمجال العمراني» مثالاً بارزاً وغنياً عن هذا العمل الإثنوغرافي الجديد داخل مدننا العربية، الذي جاء ثمرة لجهود «مدرسة القاهرة للدراسات الحضرية» التي بدأت تتشكل مع بداية القرن الحالي، من أجل دراسة مدينة القاهرة. وقد تأسّست هذه المدرسة حصيلة لأبحاث عالمية أخذت تطرح أسئلة ًجديدة عن المدن وعن المواطنة، إلى جانب منظورٍ جديد للحركات الاجتماعية الحضرية وللجماعات المهمشة، وتضم هذه المدرسة خبراء مصريين وعرب وأمريكيين وإيرانيين وأفارقة وأوروبيين، الذين كانوا قد بدأوا في اعداد دراسات عن مصر منذ أواسط سنوات التسعينيات.
وفقاً لمحرري الكتاب بول عمار، ودايان سينجرمان، أسهمت التغييرات التي شهدتها مدينة القاهرة في العقدين الأخيرين في ظهور «اقتصاد مكان» جديد. إذ أدت العولمة والتعديلات الهيكلية على الاقتصاد إلى ارتفاع نسبة البطالة، كما ساهمت محاولات التخلص من إرث القطاع العام في سياق دعم القطاع الخاص، في ظهور مجتمعات رفاهية ذات أسوار مغلقة من أجل مجتمع غامض ومنعزل ذي توجه ترفي. وفي سياق التأريخ لهذه التحولات المكانية، تشير أمنية الشاكري (جامعة كاليفورينا) في دراستها «القاهرة: عاصمة للثورة الاشتراكية» إلى أن الخطاب البلاغي الذي ساد في مصر في حقبة ما بعد الاستعمار بقيادة جمال عبد الناصر كان يدور حول اشتراكية الدولة، والنظر إلى القاهرة كموضع جوهري للحداثة ومركز للتخطيط الثوري، يعطي الامتياز للأماكن الريفية في المقام الأول ويستهدف تطويرها في عملية إعادة البناء المكانية. وكان من الخطط الرئيسية في تلك الفترة خلق مناطق صناعية في التخوم المجاورة مباشرة للقاهرة: ست مدن صناعية صغيرة (كمدن للعمال)، كما أوضحت الدولة دورها آنذاك بوصفها مانحة للوحدات السكنية المنخفضة والمتوسطة التكاليف، التي كانت غير متاحة فيما سبق لجموع السكان. لكن مع انتهاء الحقبة الناصرية ـ وفقاً لشاكري- دُشِّنت سياسات الانفتاح الاقتصادي عن طريق ورقة العمل الرئاسية لأنور السادات «ورقة أكتوبر 1974» التي حاولت خلق عملية تحول نحو اقتصاديات السوق الحرة، ما مهد الطريق لاحقاً إلى مجموعة مختلفة من العلاقات الداخلية والعالمية تميزت بالتقارب العام مع رأس المال الأجنبي، وتدعيم القطاع الخاص، والدخول إلى نمط من القواعد التي تعمل ليس من خلال أنماط كلية لبناء مجتمعات من المواطنين لاستصلاح الأراضي (كما في حال إعادة تأهيل الريف المصري في سياسات عبد الناصر) بل من خلال أنماط من القواعد التي تعمل على بناء مدن جديدة موجهة تجاه أساليب رأسمالية محددة، من أجل إعادة توزيع سكان مصر، ومن أجل زيادة إنتاجية الاقتصاد.
واستكمالاً لهذه التحولات في صياغة المكان القاهري، يكشف الباحث الفرنسي إريك دينيس (متخصص في الجغرافيا الحضرية) في دراسته «القاهرة: من مدينة ذات أسوار إلى مجتمعات ذات أسوار مغلقة» كيف أن تلك الرؤية المخيالية الجديدة ساهمت في تشييد العشرات من التجمعات العمرانية ذات البوابات الخاصة على طول الطريق الدائري، التي تحوي ملاعب للغولف والملاهي الترفيهية، والعيادات الطبية والجامعات الخاصة. كما أخذ المروجون لهذه التجمعات المغلقة يقومون باستغلال الوصمة الخاصة بـ«الشارع» أكثر فأكثر كمعمل تفريخ لخطر الإرهاب (الذي هو إسلامي بالضرورة)، من أجل إضفاء الصفة الشرعية على أنظمة السوق والأمن، التي تعد التجمعات السكنية ذات البوابات الخاصة من أبرز ملامحها. ولذلك يرى دينيس أنه لم يكن من قبيل الصدفة أن كلمة «عشوائيات» ظهرت في مصر في أوائل التسعينيات، من أجل وصف أحياء الفقراء ومناطق الأكواخ الفقيرة والبيوت المصنوعة بجهود الفقراء الذاتية، والمربعات السكنية الهامشية التي يقطنها المعدمون، كما أن مفهوم (العشوائيات) لم يعد يقتصر في نهاية أعوام التسعينيات على الأماكن، ولكن تعداها للدلالة على البشر، متضمناً وصف ما يقرب من أغلبية السكان كأشخاص «خطرين» و»منحرفين»، وهذا الشخص المنحرف هو أكثر من يخيف ذلك المجتمع الحضري.
من جانب آخر، ترى الأنثروبولوجية كاترين ميللر في دراستها «تمركز مجتمعات الصعايدة في القاهرة» إلى أنه بحلول النصف الثاني من القرن العشرين، تحولت مشاعر الازدراء التي كانت تبديها نخبة تجاه الأحياء الحضرية الشعبية، نحو الأحياء غير الرسمية الجديدة أو العشوائيات التي نزح إليها أبناء الريف المصري. كما لم يحجم عدد من الأعمال الأكاديمية والتقارير المؤسسية عن التأكيد على فوضى –الريفنة – وعلى فهم أهالي الوجه القبلي الريفي في الخطاب العام بوصفهم «حالة خاصة» أكثر من غيرهم من النازحين المصريين إلى مدينة القاهرة، وأقل قابلية للاندماج في المجتمع.
وعلى الرغم من أن النازحين من الصعيد قد شكلوا نسبة مئوية ضئيلة من قاطني تلك العشوائيات، فإن العديد من المحللين السياسيين والمسؤولين في الدولة، والصحافيين بقوا يعتبرونهم مهيمنين من ناحية على مستوى الكثافة الديموغرافية، ومنجذبين من ناحية أخرى للمتشددين الإسلاميين نتيجةً لثقافة «العنف» المزعومة لديهم والمتمثلة في ظاهرة الثأر. وقد عزّز الخطاب السياسي والإعلامي لسنوات التسعينيات –وفقاً لميلر- الصورة النمطية لأهالي الصعيد (في الأفلام ومسلسلات التلفزيون والنكات المتبادلة) ما أسهم في ترسيخ المفهوم السائد حول منطقة الصعيد بوصفها «منطقة خاصة»، تتسم بالثقافة المحافظة ومقاومة محاولات التحديث والميل إلى العنف. لكن رغم هذه القوالب النمطية والتهميش حيال (أهل الصعيد، والنوبة، والأقباط، وبعض الحركات الصوفية، والعمال، والنساء المحجبات)، فإن عددا من القاهريين المنتمين للمجموعات السابقة أخذوا يقاومون حالة التهميش هذه من خلال القيام بتطوير خطابهم الخاص حول هويتهم، عبر إعادة إحياء اللغات النوبية (كنزي– وفاديجا)، أو عبر التشديد على تعزيز قيم أهل الوجه القبلي لمصر (الأمانة، والتضامن، واحترام كبار السن) كترياق شاف للتغريب الذي تمارسه النخبة من أهل القاهرة، وتبين الباحثة المتخصصة في الجغرافية الحضرية آنا مادوف من خلال دراستها للاحتفالات الدينية الشعبية (الموالد) إلى أنه على الرغم من المراقبة المتشددة والمتزايدة التي تفرضها الشرطة على الاحتفالات العامة، فإن الاحتفالات التي تقوم بها الطرق الصوفية في منطقة الحسين أو السيدة زينب، باتت تقوم بتنمية مشاعر الانتماء للجماعات المهمّشة (الصوفية) داخل الحقل الديني، بمعنى أن المكان يتم حبكه بالذاكرة الجماعية من خلال هذه المهرجانات السنوية. إذ يتقاطر الكثيرون من الستة ملايين المنتمين للحركات الصوفية في مصر (حسب تقديرها) إلى القاهرة من أجل المشاركة وتعزيز التزاماتهم الدينية، وممارساتهم الثقافية، بالإضافة إلى إحياء شوارع تلك المناطق الشعبية وتحويلها إلى ما يشبه أجواء المهرجانات الاحتفالية، فتختفي القواعد الاجتماعية بصفة مؤقتة (قواعد السلطة والأمن) ويقوم النساء والرجال بتحديد المجالات للتعبير الجماعي، وتعديل علاقات القوة الاجتماعية، وبذلك تعزز من الوجود الثقافي للجماهير الحضرية في المجال العام، وتعيد قلب المعادلة داخله ولو بشكل مؤقت.
٭ كاتب سوري
محمد تركي الربيعو