■ في شهر كانون الثاني/يناير عام 2010 اعتمدت المحكمة العليا في الولايات المتحدة قانونا جديدا يرفع الحظر على كمية التبرعات التي تقدمها الشركات للمرشحين في الانتخابات العامة. واعتبرت المحكمة ان الشركات تعامل معاملة الأفراد لانها مكونة من افراد ينطبق عليهم «التعديل الاول» للدستور المتعلق بحرية التعبير (اعتمد في 15 كانون الاول/ديسمبر 1791). هذا القانون الجديد الغى ممارسة كانت سائدة في الانتخابات الأمريكية منذ عام 1909 بوضع حد اقصى للتبرعات المسموح بها للمرشحين من الافراد بقيمة 2600 دولار، و5000 دولار من الشركات، على ان يكون المتبرع من ولاية او منطقة المرشح نفسها، وان تكون التبرعات علنية ومصرحا بها. هذا القانون ساهم في نجاح اوباما في انتخابات 2008 بفضل ملايين المتبرعين على الانترنت بأقل من 50 دولارا. ولا نشك ان تمويل حملة اوباما الشعبية كانت في ذهن قضاة المحكمة العليا، المكونة من تسعة قضاة خمسة من المحافظين واربعة من الليبراليين، عندما اقروا القانون الجديد. فحسب القانون الجديد يجوز للافراد والشركات ان يقدموا من الاموال المعفاة من الضرائب، طبعا، اي مبلغ بدون حد اقصى. كما يمكن التبرع لاي مرشح في اي ولاية من الولايات الخمسين، بدون الاعلان عن كمية التبرعات او لمن قدمت التبرعات. ان هذا القانون ببساطة يفتح المجال امام كبار الاثرياء لشراء الانتخابات، من خلال تمويل حملات المرشحين بكاملها.
لقد جاءت الانتخابات النصفية الاخيرة التي جرت يوم الثلاثاء 4 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، اختبارا لهذا القانون الجديد، حيث صرف على الحملات الانتخابية اربعة مليارات دولار، معظمها من اصحاب الثروات الطائلة ومليارديرات الحزب الجمهوري، والشركات الكبرى، ووجهت ضربة موجعة للرئيس الأمريكي باراك اوباما والحزب الديمقراطي واستطاع الحزب الجمهوري ان يسيطر على المجلسين: النواب (243 من الجمهوريين مقابل 192 من الديمقراطيين) والشيوخ (52 من الجمهوريين و45 من الديمقراطيين و3 من المستقلين) كما نجح الجمهوريون في انتخاب 31 حاكم ولاية من اصل 50. وبالتالي سيقضي الرئيس الحالي اخر سنتين في البيت الابيض مكبل اليدين ومعزولا، لا يستطيع ان يمرر اي مشروع بدون ان يعتمده الجمهوريون. لقد انتصر في الانتخابات النصفية عمالقة المال وانصار الحروب واصدقاء نتنياهو، الذين يعتبرون ان اسرائيل دولة غير محتلة لاراض تملكها اصلا، بموجب نص توراتي ويعتبرون ألا فرق بين «حماس» و»حزب الله» و»داعش»، وان تأديب ايران بالقوة المسلحة هو الحل لانهاء برنامجها النووي. وقد بلغت نسبة المشاركة في الانتخابات 35٪ ثلاثة ارباعهم من البيض من متوسطي او متقدمي الاعمار. اي ان القاعدة الاساسية للحزب الديمقراطي من الاقليات والسود والشباب والنساء والفقراء والمهاجرين عزفوا عن المشاركة.
فشل أوباما في تسويق إنجازاته
منذ انتخاب اول رئيس أمريكي من اصول افريقية تشكل تحالف كبير ضده من الشركات الكبرى والمؤسسات الصناعية والوول ستريت والمحافظين الجدد وحزب الشاي والمتدينين، وعملوا منذ اللحظة الاولى على اسقاطه وافشال برامجه التي تخدم الطبقة الوسطى والفقراء والطلاب والمهاجرين والنساء والاقليات. ينتقدونه ويعطلون برامجه مهما عمل ومهما حاول. ظل قسم من المحافظين يسوق اوباما على انه يساري ليبرالي اشتراكي او مسلم، وما زال واحد من كل ستة أمريكيين يعتقـــد انه مسلم.
ورغم ان انجازاته على المستوى الداخلي لا ينكرها الا متعصب او جاهل الا انه فشل هو والحزب في تسويقها للناخب الأمريكي. نذكر منها:
– استطاع اوباما، كما وعد في حملته الانتخابية، ان يخرج امريكا من وحل العراق وافغانستان رغم معارضة الجمهوريين؛
– عند انتخابه كانت نسبة البطالة 9٪ واستطاع تخفيضها إلى 5.5٪ واستمرت اضافة فرص عمل لفترة 63 شهرا بدون انقطاع؛
– كانت البلاد على وشك انهيار اقتصادي، حيث وصل برميل النفط في اب/ اغسطس 2008 إلى 145 دولارا، لكن اوباما استطاع ان يخرج البلاد من ازمتها بعد ضخه للمليارات لانعاش الاقتصاد، التي سماها «رزمة المحفزات»؛
– رغم العديد من الانتقادات الا انه قدم برنامجا متواضعا للتأمين الصحي الذي سمي باسمه «اوباما كير» يستطيع الان الـ45 مليون أمريكي الذين لا تشملهم اي رعاية صحية ان يجدوا الحد الادنى من التأمين في هذا البرنامج؛
– اختار اوباما سبل الحوار والمبادرات السياسية مع ايران وكوريا الشمالية وفلسطين وسوريا، وهو ما اثار حفيظة المتطرفين من انصار اسرائيل ولووا عنقه، واضطر ان يتراجع عن مبادرته حول اقامة الدولة الفلسطينية التي طرحها في خطابه في القاهرة في 5 حزيران/يونيو 2009 ودعا فيها إلى تجميد الاستيطان وانهاء معاناة الفلسطينيين «التي زادت عن الستين سنة». اما بالنسبة للموضوع الايراني فقد رفض ان ينجر إلى سياسة نتنياهو، وأصر على الاستمرارا في الحوار وحل المشاكل بالطرق السلمية. كما انه تعرض لضغط شديد للتدخل العسكري في سوريا، لكنه التقط المبادرة الروسية حول تدمير ترسانة سوريا من الاسلحة الكيميائية وتراجع عن استخدام القوة؛
– استرد الدولار عافيته مقابل اليورو والاسترليني والين الياباني؛
– سوق الاسهم لم يكن في تاريخه افضل من الحالة التي يمر بها في عهد الرئيس الحالي؛
– اصبحت الولايات المتحدة في عهد أوباما ا اكبر منتج للنفط في العالم لتتفوق على السعودية وروسيا، بانتاج ما يزيد على 11 مليون برميل يوميا. كما انها اصبحت منذ عام 2010 اكبر منتج للغاز الطبيعي في العالم، ما ساهم بشكل رئيس في الانتعاش الاقتصادي الذي تعيشه البلاد حاليا. لقد انخفضت نسبة ما تستورده من النفط من الخارج عام 2013 إلى 33٪ فقط وهي اقل نسبة منذ عام 1985؛
– رغم توسع اوباما في استخدام الدرونز في ما سمي بالحرب على الإرهاب، لكن ذلك لم يشف غليل الجمهوريين الذين يفضلون الحروب الواسعة لتشغيل عجلة صناعة الأسلحة. وها هم يدفعونه إلى العودة إلى المنطقة بالسلاح رغم عدم قناعاته. وانتظروا ماذا سيحدث في حال انتخاب رئيس جمهوري لتروا الفرق.
رغم هذه الانجازات المهمة إلا ان الحزب لم يستثمرها، بل باعد العديد من المرشحين بانفسهم عن الرئيس خوفا من ان يلحق بهم الضرر بالترابط، والنتيجة انهم خسروا الاثنين معا: المواقع الانتخابية وثقة الرئيس، وساهموا في إضعاف نسبة الموافقة على ادائه لدرجة لم ينزلق اليها حتى الرئيس بوش في أحلك أيامه.
الانتخابات الرئاسية القادمة معروضة للبيع
من شبه المؤكد ان تكون هيلاري كلينتون مرشحة الرئاسة عن الحزب الديمقراطي لعام 2016، لكن الوقت ما زال مبكرا لمعرفة مرشح الحزب الجمهوري. الذي نعرفه ان الملياردير الصهيوني الليكودي ممول المستوطنات شيلدون ادلسون صاحب كازينوهات القمار في لاس فيغاس، الذي تقدر ثروته باربعين مليار دولار، قد وعد بان يصرف المليارات لوحده على المرشح الجمهوري القادم، ولا يزاحمه في ذلك الا الأخوان كووك ايضا نحو تمويل حملات الجمهوريين. ويصر شيلدون على كل مرشح ان يتبنى الخطاب الليكودي في تأييد اسرائيل بدون تحفظ، كما فعل المرشح الرئاسي ميت رومني عام 2012 الذي تلقى من شيلدون 12 مليون دولار. فشيلدون يعتبر ان الفلسطينيين ليسوا شعبا، وهدفهم تدمير اسرائيل. ويرى ان تتخلى اسرائيل عن الديمقراطية اذا تعارضت مع يهودية الدولة «فالديمقراطية لم ترد في التوراة» على حد تعبيره.
من الجانب الديمقراطي هناك ملياردير يهودي آخر هو حاييم صبان من مواليد الاسكندرية وصاحب محطات تلفزيونية واستوديوهات ودور انتاج سينمائية في هوليوود، يقف على اتم الاستعداد لتمويل حملة هيلاري كلينتون بكاملها، إن اقتضى الامر. اذن نحن امام انتخابات معروضة للبيع على المزاد بين عمالقة المال، والشعب الأمريكي العادي ليس له دخل فيما يجري. ونتوقع ان تكون عملية العــــزوف عن المشاركــــة في الانتخـــابات الرئاسية لعام 2016 كبيرة، خاصة لدى السود مما يسهل فوز الجمهوريين.
وللعلم فان 1٪ من الشعب الأمريكي يملك 40٪ من الثروة، بينما لا يملك 80٪ من الشعب الأمريكي الا 7٪ من الثروة والبقية موزعة على نحو 19٪ من اصحاب الثروات المتوسطة.
بهذه الانتخابات النصفية يكون عهد من الديمقراطية الأمريكية قد أفل. انه العهد الذي اتاح لانسان عادي صاحب مزرعة فستق في جورجيا مثل جيمي كارتر او لرجل لا يملك بيتا باسمه مثل بيــــل كلينتون او لرجل من اصول افريقية مثل اوباما ان يصلوا البيــــت الابيض. لقد جاء الان عهد شراء المرشحين والانتخابات، عهــد المنافسة بين الاثريا وكبار الاثرياء. عهد اختلاق الأزمات والحروب وتجارة الأسلحة وما نشهده الآن في المنطقة العربية إلا مقدمات لتلك المرحلة.
٭ استاذ جامعي وكاتب عربي مقيم في نيويورك
د. عبد الحميد صيام
الصراحة مذهل.
اقول هذا اليوم 14/ 11/ 2016 بعد سنتين من كتابته