بات موسم الانتخابات الايرانية – على الاقل في العقد الاخير- يمثل حدثا يستقطب المتابعة والدراسة والتحليل، ورغم معرفة كل المعنيين بالشأن الايراني أن انتخابات الرئاسة الايرانية ذات تأثير محدود خارجيا وإقليميا، بسبب طبيعة تركيبة وهرمية النظام الحاكم في ايران، إلا أن متابعة ما يجري قبل وخلال الانتخابات يفيد بقراءة مستجدات الوضع الإقليمي والدولي في منطقة الشرق الاوسط، التي باتت ايران تمثل أحد أبرز اللاعبين فيه.
الرئيس حسن روحاني هو رئيس الجمهورية السابع في تاريخ ايران المعاصر، فقد انتخب اول رئيس للجمهورية بعد نجاح الثورة التي أطاحت نظام الشاه محمد رضا بهلوي عام 1979، واستبدل بنظام جمهوري عبر استفتاء شعبي، وانتخب الرئيس ابو الحسن بني صدر في 1980، لكن سرعان ما دب الخلاف بينه وبين مرشد الثورة الاعلى (الولي الفقيه) آية الله الخميني، ما أدى إلى عزله عام 1981 بحجة عدم كفاءته السياسية، وضعف إدارته لملف الحرب التي كانت تدور رحاها مع عراق صدام حسين، لكن الوقائع كانت تشير إلى وقوف بني صدر بوجه نفوذ دور الولي الفقيه المتنامي، حتى بات يمسك بكل السلطات، ووفقا لميول الخميني تم تعيين الرئيس محمد علي رجائي في اغسطس 1981 الذي اغتيل بعد أقل من شهر مع رئيس وزرائه بتفجير نفذته حركة مجاهدي خلق، فتم انتخاب السيد علي خامنئي (المرشد الحالي) لدورتين رئاسيتين، تبعه الشيخ هاشمي رفسنجاني لدورتين ثم السيد محمد خاتمي لدورتين ثم الدكتور محمد أحمدي نجاد لدورتين ثم الشيخ حسن روحاني الذي فاز في الانتخابات الاخيرة بالدورة الثانية للرئاسة.
يقوم مجلس صيانة الدستور بتحديد صلاحية الأفراد المرشحين، ثم بعد ذلك يأتي دور الناخب الإيراني، من ذلك نكتشف صلاحية مجلس صيانة الدستور ومن فوقهم الولي الفقيه غير المحددة، بقبول أو استبعاد المرشحين المحتملين لدخول التنافس الانتخابي.
نلاحظ هنا أن ثلاثة من الرؤساء السبعة، ليسوا رجال دين، منهم الاول والثاني اللذان لم يستمرا في الرئاسة مجتمعين سوى سنة ونصف السنة، وشاب فترة رئاستهم الاضطراب وعدم الاستقرار وعدم وضوح صلاحيات المؤسسات حديثة الإنشاء حينها، أما الرئيس احمدي نجاد، وهو من غير رجال الدين، ومع ذلك كان الاكثر تشددا ومحافظة، وقد جرّ ايران خلال دورتي رئاسته إلى الكثير من التوترات والأزمات الدولية، بينما الاربعة رؤساء المتبقين فهم رجال دين، مثّل ثلاثة منهم تيار الاصلاحيين، ضمن المؤسسة الدينية الشيعية الممسكة بالحكم، بدءا من الرئيس رفسنجاني مرورا بالرئيس خاتمي، الذي تميزت حقبة رئاسته بالوجه الاصلاحي المنفتح لايران في حقبة التسعينيات وبداية الالفية الجديدة، ثم الرئيس الحالي الذي اعتبر انتخابه انتصارا للاصلاحين بعد فترة التشدد التي سيطر فيها المحافظون ابان رئاسة نجاد.
على صعيد اخر تسنم منصب المرشد الأعلى للثورة أو الولي الفقيه رجلا دين فقط طوال عمر النظام الجمهوري الايراني الممتد قرابة الاربعة عقود، وهما روح الله الخميني وعلي خامنئي، وبالنظر لتسلسل من تسنم الرئاسة الايرانية، يمكننا أن نشير إلى أن الولي الفقيه، وبناء على الوضع الإقليمي والدولي يدعم مرشحا ما من المحافظين أو الاصلاحيين، بحسب حاجة ايران ووضعها الدولي، ففي فترة الحرب تم اختيار خامنئي رئيسا للجمهورية، بصفته متشددا ومحافظا ورئيسا للسلطة التنفيذية، التي تنفذ متطلبات الحرب كأولوية قصوى. اما بعد انتهاء الحرب فقد فاز الاصلاحي رفسنجاني، في محاولة لمعالجة آثار الحرب، حيث لعب دورا مهما في إقناع الخميني وبقية القيادات بضرورة الموافقة على إيقافها، والعمل على إزالة اثار الحرب عبر الانفتاح على الغرب، ومحاولة كسر الحصار الذي فرضه العالم على نظام طهران، وقد حقق الكثير في ذلك واستمر هذا النهج في حقبة خلفه الرئيس خاتمي، لكن مع احتلال العراق وافغانستان من قبل الولايات المتحدة والتحالف الدولي، الذي تقوده بعد أحداث 11 سبتمبر، بات على الولي الفقيه أن يختار رئيسا لحقبة حرب مقبلة، وهذا ما تم عام 2005 عبر دعم حملة احمدي نجاد عمدة طهران السابق المتشدد، رئيسا من جناح المحافظين، لكن بعد تراجع اليمين الامريكي وفوز اوباما وادارته الديمقراطية ذات التوجه السياسي المرتكز على الداخل الامريكي، ومحاولة الانسحاب من مناطق التوتر في العالم، ومع موجة الربيع العربي، ومحاولات ايران الحصول على اتفاق مع الغرب بشأن برنامجها النووي، تم اختيار شخصية اصلاحية هو حسن روحاني، الذي يحمل شهادة الدكتوراه من جامعة غلاسكو في القانون، والذي عمل كبير مفاوضي ايران في المفاوضات النووية، ليكون رئيسا للجمهورية عام 2013 وليفوز بالدورة الثانية في الانتخابات الاخيرة ليستمر رئيسا حتى 2021، ومما يجدر ذكره أن كل رؤساء الجمهورية قد تمتعوا بدورتين رئاسيتين منذ خامنئي وحتى روحاني دون استثناء.
ان انتخاب رئيس جديد لإيران لا يحدد مستقبل السياسات، بل العكس هو الصحيح، حيث أن السياسات المصيرية والرؤى المستقلبية في إيران، هي التي تحدد هُوية الرئيس القادم لإيران أولاً، ثم يأتي الدور النهائي للناخب الإيراني في حسم المنافسة، التي اطرتها مسبقا مراكز القوى المتمثلة في مجلس صيانة الدستور، صاحب الامتياز في قبول أو رفض أي مرشح دون امكانية الاعتراض، وحتى إن لجأ بعض المرشحين للشارع، كما حصل على هامش انتخابات 2009 عندما حدثت ما عرفت بالثورة الخضراء، بنزول انصار كروبي وموسوي إلى الشارع، لكن النتيجة النهائية حسمت لصالح نجاد، بحكم مراكز القوى الممسكة بالمجتمع، وبذلك يمكننا التوصل إلى نتيجة مفادها أن جناحي التنافس، المحافظين والاصلاحيين، هما مجرد تنويعات في بنية الاسلام السياسي الشيعي ومؤسسته الحاكمة في ايران، ولا وجود لأي احتمالية أو امكانية لتمثيل المعارضة الحقيقية، سواء كانت تيارات ليبرالية أو يسارية، في أن تكون فاعلة في الانتخابات الايرانية.
من المعلوم أن مراكز القوى المؤثرة في السياسة الايرانية متعددة وبشكل خاص رسم السياسات الخارجية، فعلى المستوى الرسمي هنالك الخارجية الايرانية الناشطة ذات الحراك الدبلوماسي المؤثر، لكن هنالك القوة الناعمة والقوة العنيفة في التحركات الايرانية، وهاتان القوتان بعيدتان كل البعد عن سيطرة الرئيس الايراني أو سلطته التنفيذية. فالقوة الناعمة الممثلة بالنفوذ الديني لمؤسسة الولي الفقيه، التي تتحكم بمليارات الدولارات، وتحرك مؤسسات ومصالح ومشاريع مختلفة في انحاء العالم، عبر شبكة علاقات المقلدين لمرجعية السيد خامنئي، وهذه الشبكة من التعقيد وعدم الشفافية، بحيث لا توجد أي احصاءات رسمية حولها، ولكن يكفي لفهمها أن نضرب أمثلة معروفة وملموسة في هذا الشأن، مثل كون حزب الله اللبناني والفصائل الأكبر والأقوى في الحشد الشعبي في العراق، مثل عصائب اهل الحق وكتائب حزب الله العراقي تقلد السيد خامنئي، وبالتالي ترتبط دينيا واستراتيجيا بقرار مؤسسة الولي الفقيه.
اما القوة العنيفة فتتمثل بقوات الحرس الثوري وذراعها للعمليات الخارجية «فيلق القدس» الذي يشرف عليه بشكل مباشر الولي الفقيه، ويعين لقيادته من يثق بهم من الجنرالات، ويمتلك الحرس الثوري الايراني اليوم أكبر منظومة صواريخ بالستية في منطقة الشرق الاوسط. ولأن الساحة العراقية ملعب مهم للسياسة الايرانية بشقيها العنيف والناعم، فقد تم تعيين احد جنرالات الحرس الثوري سفيرا لجمهورية ايران في العراق، وهو العميد ايرج مسجدي، الذي عمل لسنوات، كبير مستشاري الجنرال قاسم سليماني قائد «فيلق القدس» بالحرس الثوري، وهذا التعيين الذي تم في فبراير الماضي، يدل على أن التعاطي مع ملفات الخارجية الحساسة بالنسبة للسياسة الايرانية لا تُترك لنفوذ رئيس اصلاحي مثل حسن روحاني .
وربما يشير البعض إلى أن المرشح إبراهيم رئيسي، الذي نافس حسن روحاني في الانتخابات الاخيرة كممثل للتيار المحافظ، فشل في الانتخابات الاخيرة، رغم كونه مرشح الولي الفقيه، الذي اعتبره البعض مرشح الحرس الثوري والباسيج الايراني، بناء على الزيارات والدعم الذي تلقاه رئيسي من مراكز القوى هذه، لكن الشارع قال كلمته وفاز روحاني، وهنا نقول؛ نعم هنالك هامش حراك سياسي يسمح بصعود مرشح اصلاحي ليتمتع بدورة ثانية، لان الشأن الايراني، خصوصا الاتفاق النووي يمر الان بمرحلة حرجة، بسبب تهديد ادارة ترامب، التي لم تتضح ابعادها بعد، لكن يبقى نفوذ مؤسسة الرئاسة بعيدا عن مفاصل السياسة الخارجية الحرجة وملفاتها الساخنة كالملف العراقي.
كاتب عراقي
صادق الطائي