الانتخابات البريطانية والتراجيديا العربية

ها هي الانتخابات التشريعية في بريطانيا وضعت أوزارها وأفرزت فوز حزب المحافظين وخسارة حزب العمال.
وفي ذلك السياق فإن ما يهم القارئ العربي عموماً هو انعكاس ذلك الفوز على الدور الذي مازالت تلعبه بريطانيا عالمياً عموما، وعلى الصعيد العربي خصوصا، في ما يختص بواقع ومستقبل وأحلام كل الناطقين بلسان الضاد، بنسب متفاوتة منذ بواكير الثورة العربية الكبرى وحتى اللحظة الراهنة.
لقد دافع زعيم حزب المحافظين خلال المناظرة الانتخابية الأخيرة له مع زعيمة حزب الخضر عن موقفه الثابت في رفض قبول طلبات الأمم المتحدة وهيئاتها المختصة بوجوب استقبال بريطانيا حصة تتناسب مع موقعها العالمي والاقتصادي من اللاجئين السوريين ذوي الحالات الصحية المعقدة، أو الأطفال، أو المعاقين جراء المأساة السورية، مجادلاً بأن عدد اللاجئين السوريين الذين قبلتهم بريطانيا والمتمثل بـ 143 لاجئاً فقط هو حصة عادلة، حيث أن التبرعات البريطانية – وهي هزيلة ومخجلة قياساً بالموقع السياسي والاقتصادي لبريطانيا عالمياً – تمثل التعويض البريطاني عن رفضها لاستقبال أي من ضحايا المأساة السورية، سوى الرقم السالف الذكر. ويمثل ذلك مثالاً عيانياً مشخصاً عن المعايير المزدوجة لحقوق الإنسان التي تتبعها الأغلبية الساحقة، إن لم يكن المطلقة، من الساسة الغربيين الذين لا يمثل الالتزام بالشرعة الدولية لحقوق الإنسان واجباً أخلاقياً أو قانونياً لأي منهم، ما لم يرتبط ذلك بشكل مباشر بحقوق الناخب الذي يستمد ذلك السياسي شرعيته من صوته الانتخابي.
ومن الجانب الآخر شرح زعيم حزب العمال، خلال المناظرة الانتخابية منهجيته في مقاربة الأزمة السورية بشكل مباشر، ملخصاً إياها برفض دعم أي تدخل عسكري، من أي طابع، يهدف لمعاقبة النظام السوري على استخدام الأسلحة الكيميائية في إبادة شعبه، لأن ذلك يمثل عدواناً غير مبرر، بالإضافة إلى ضرورة الاستمرار في كل العمليات العسكرية التي تقوم بها القوى الجوية الملكية البريطانية في قصف تنظيم «داعش»، لأنه يمثل الشيطان بعينه، كما لو أن النظام السوري لا ينطبق عليه التوصيف ذاته، ومن دون أي إشارة إلى أي واجب أخلاقي على الحكومة البريطانية القيام به تجاه اللاجئين السوريين، في اتفاق ضمني شبه مطلق مع منافسه زعيم المحافظين، وإن لم يقل ذلك جهراً. بالفعل يفلح كل الساسة البريطانيون، وعلى اختلاف ألوانهم السياسية، التي لا تعكس فرقاً جوهرياً في ما بينهم من الناحية الأيديولوجية، في التناسي الإداري لتاريخهم الأسود، في علاقاتهم مع أبناء العرب، منذ نكثهم بعهودهم المعسولة للشريف حسين في سياق الثورة العربية الكبرى، مروراً بوعد بلفور المشؤوم، وسايكس بيكو، وتصنيع الدول العربية في العصر الحديث، بما لا يمكن أياً منها من النهوض كدولة أمة، وبشكل يحافظ على كوامن تفجير كل منها ضمن الحدود الاعتباطية التي كان يرسمها لها الساسة في لندن، وتخليق الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة، ودعم حركات الإسلام السياسي في مواجهة المد القومي العربي، في مراحل ما بعد استقلال الدول العربية، واستنباط كيان المجاهدين الأفغان وفكر الإسلام الجهادي، لمواجهة المد السوفييتي آنذاك، وصولاً إلى تراجيديا تهشيم العراق، وتركه مستنقعاً طبيعياً ونموذجياً لاستنبات كل أنماط الشوك الداعشي، الذي تمثل مفاعيله الكارثية أحد العناوين الكبرى للتراجيديا العربية الراهنة.
وعلى الجانب الرسمي العربي، تقوم السياسات العربية الرسمية في التعامل مع الحكومات القائمة في لندن على الاستجداء، أو في أحسن الأحوال على رشوتها بعقود وصفقات لا تمثل حاجة طبيعية للشعوب العربية، لاستمالة السياسيين في لندن، من دون الالتفات إلى أن الحقيقة الثابتة والمطلقة في السياسة الذرائعية البريطانية، القائمة على معايير سياسية واقتصادية نفعية وأخلاقية، يشترط للاعتداد بها ارتباطها بمصالح الناخب البريطاني، من دون أي معيار قيمي آخر سوى ذلك الأخير. وتلك معادلة راسخة في قلب فلسفة السياسة البريطانية، التي لا يستقيم تعديل أي جزء منها ما لم يتم الوصول إلى ذلك الناخب البريطاني، الذي لا يعرف عن المأساة العربية الراهنة سوى ما يتم تلقينه له، من خبراء ومستشرقين في وسائل الإعلام الرسمية والخاصة، بمختلف إخراجاتها المختصرة المُخِلًّة في أحسن الأحوال، والشائهة المسممة في غالب الأحايين؛ من دون أن يكون هناك وجود فعلي لأي مركز أبحاث عربي أو مجموعة ضغط تمثل المصالح العربية والمواطنين البريطانيين من أصول عربية في المملكة المتحدة، حيث لا تستطيع الجهود الفردية المعزولة تسوية ذلك الخلل البنيوي مهما عظمت في نواياها الحسنة.
نعم لقد أدلى الناخب البريطاني بصوته، وبزغت حكومة بريطانية جديدة قديمة إلى الضوء، من دون أن يعني ذلك أي تغير ملموس في سياستها تجاه المأساة العربية الراهنة وجذورها التاريخية، ما لم يلتفت أبناء العرب وحكامهم إلى تغيير مقاربتهم لعلاقتهم مع الساسة في الغرب، ويعززوا من جهود التنظيم والتأثير والحشد، وتشكيل مجموعات ضغط ومراكز أبحاث عربية تختص بالوصول إلى الناخب البريطاني، ومنظمات المجتمع المدني البريطاني لتشكيل وعي مغاير عن واقع المأساة العربية، يجبر الساسة البريطانيين على تغيير دفتهم الذرائعية وفق قواعد اللعبة السياسة القائمة في بريطانيا. وسوى ذلك سوف تبقى التراجيديا العربية رقماً لا قيمة له في معادلة المصالح البريطانية بغض النظر عن نتائج الانتخابات الأخيرة، وما سوف يليها في قابل الأيام والسنين.

٭ كاتب سوري مقيم في لندن

د. مصعب قاسم عزاوي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية