عشنا قبل أسابيع الانتخابات الروسية المحسومة سلفا وبشكل مسبق، لصالح الرئيس فلاديمير بوتين، المُرشح الوحيد عملياً، لعدم تمكُن المرشحين الجِديين من التقدم لهذه الانتخابات، وقد جرى إبعادهم بالقوة أو بالقضاء. وطوال 18 عاما من حكم بوتين، لم تحصل في روسيا انتخابات حقاً حرة.
إن أوهام النظام بحصوله، على دعم شعبي واسع، مع رفضه القيام بانتخابات حرة تعددية، هو دليل خوفه من الشعب الروسي، وإلا فلماذا تُمنع المُعارضة من الوجود والتعبير عن آرائها بحرية؟.
لقد تعددت أشكال الوصول للسلطة عبر التاريخ وعبر القارات، إما بالقوة التي تطرد نظاماً ليحل محله نظام آخر، وهي الصبغة الأكثر انتشاراً تاريخياً، أو بالثورات العنيفة والتي توصل للسلطة مجموعة تستولي عليها نهائياً، إلى أن تذهب بدورها بثورة أخرى، أو بالانهيار الداخلي بسبب تعارض مصالح ورؤى الطبقة الحاكمة.
تُحاول السلطة الجديدة دائماً، إضفاء صورة الشرعية على وجودها، عن طريق التذرع بأشكال مُتعددة، فهي إما شرعية الوراثة، الآتية من حق العائلة مالكة السلطة، أو بالشرعية الدينية أو الإلهية (من سلالة الرسول أو لتطبيق شرع سماوي) كما نرى بعدد من الدول العربية والإسلامية، أو بشرعية الثورة التي أوصلتها كما نرى بإيران أو كوبا والدول الشيوعية سابقاً.
شرعنة الوصول إلى السلطة
كانت هذه الأساليب لشرعنة الوصول للسلطة، صبغة الإنسانية على مدى قرون عديدة منذ بدء التاريخ، وأسست لبناء كل الإمبراطوريات من أقصى الأرض إلى أدناها. لكن هذا المفهوم للسلطة انتهى مع بزوغ فجر الحضارة الحديثة، والتي أسس لها التطور الصناعي والثورات الاجتماعية في أوروبا، وخصوصاً الثورة الصناعية في بريطانيا وما تبعه من الثورة الفرنسية وعصر الأنوار، والتي أوصلت مفهوم المواطن والمواطنِة، بدل الراعي والرعية. وقد تحول مصدر الشرعية للسلطة من الراعي إلى الرعية أي المواطن.
منذ ذلك الوقت، دخل تدريجياً مفهوم الوصول للسلطة عن طريق الانتخابات العامة، وما تبعه من مفهوم شرعية السلطة المُستمدة من الشعب مباشرة، في هذه الدول الشعب هو مصدر كل السلطات، ويُعبر عن ذلك بانتخاب من يُمثله، وإزالتهم عند الضرورة.
كل الشعوب التي تريد أن تدخل عالم التطور والثبات السياسي والاجتماعي، تتبنى النُظم الديمقراطية، نرى ذلك شرقاً وغرباً، فمن ألمانيا إلى اليابان، ومن كوريا الجنوبية وأستراليا، إلى جنوب أفريقيا أو الهند والبرازيل والأرجنتين وتشيلي ودول عديدة في العالم الثالث سابقاً.
الانتخابات بالنظم الديمقراطية، هي وسيلة الشعب للتعبير عن نفسه، بمعنى معرفة القوى والتيارات المُؤثرة به، تعدد هذه التيارات وقوتها هو دليل حيوية الديمقراطية والشعب الذي يحملها، الانتخابات إذن هي كالصورة اللحظية، التي تُظهر المجتمع على حقيقته وتحدد مكوناته وصراعاته الداخلية، نُقاط قوته ونقاط ضعفه، وتوصل للسلطة الأغلبية، والتي تُعبر في كثير من الأحيان عن تحالُف مجموعة من القوى الاجتماعية، وتترك بالمُقابل بمقاعد المُعارضة للقوى المُتبقية، بانتظار دورها المُستقبلي، بالتبادل السلمي للسلطة. لعبة التحالفات هذه للوصول إلى أغلبية النصف زائد واحد، قد تطول أسابيع وأشهرا، كما رأينا بآخر انتخابات ألمانية، هذا ليس دليل ضعف الديمقراطية بل حيويتها، دورية الانتخابات وتتابعها، يُبين التطورات الحادثة والتغيرات الاجتماعية على مدى العقود المُتتابعة ومعرفة النفس الناتجة عن ذلك، والتي هي أساس القوة الحقيقية (من نحن وماذا نريد).
الفصل بين السلطات والإعلام الحر، مكونات المجتمع المدني المُستقلة عن السلطة كالنقابات والاتحادات والجمعيات، كتابات المُفكرين والمُثقفين، ولكن أيضاً وخصوصاً، ذكاء ومعرفة المواطن واهتمامه بالشأن العام، مُعطيات حياته اليومية والصعوبات التي يواجهها، هو من يدفع إلى انتمائه، وتصويته لهذا التيار أو ذاك، والذي يشعر أنه يُعبر عنه، المواطن هو المسؤول الوحيد عن هذا الاختيار، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بعد الاستفتاء، نموذج لذلك، حيث أصر الناخبون على الخروج، رغم الحجم الإعلامي والسياسي الضخم للاتجاه المُعاكس.
هل تنطبق هذه المعايير على الانتخابات الروسية الأخيرة، وحتى ما قبلها ومنذ 18 عاما؟ هل عبر كل مُكون من المجتمع الروسي، أي القٌوى الفاعلة داخله، عن وجودهم وحجمهم واحتياجاتهم وما يودون الحصول عليه، هل ظهر كباقي الدول الأخرى، بهذه الانتخابات، قوى يمين ويسار متوازنة، قوى محافظة واخرى ليبرالية، كما هو الحال داخل أي مجتمع ديمقراطي آخر؟.
هل من المعقول أن لا يستطيع الشعب الروسي إلا الاختيار بين بوتين وبوتين، فكل المنافسين الآخرين، أُخرجوا من الصورة، وقُدم للشعب أسماء لا يعرفها، إلا أقاربهم المُقربون، ولا يمثلون أي تيار سياسي أو كتلة أجتماعية روسية، باستثناء بقايا الحزب الشيوعي المُحطم، والذي لفظه الروس منذ سنوات.
هل من المعقول ألا يجد الروس إلا مُمَثلا واحداً لهم، رغم تناقضاتهم العميقة ومصالحهم المتضاربة. هل حقاً أن المواطن الروسي، يدعم بوتين لاستعادة هيبة الاتحاد السوفييتي، عن طريق إرسال أبنائه لساحات القتال الخارجية في أوكرانيا وسوريا وغيرهما، وما زالت ذكرى أفغانستان حاضرة، وما زالت حاجاته الأساسية من غذاء ودواء وتقاعد وعمل وبُنية تحتية، غير كافية، هل حقاً المواطن الروسي فخور بذلك، بينما المصانع الروسية لا تصنع إلا الأسلحة، بدل وسائل حياته اليومية، وبينما مُعدل دخل الفرد الروسي، في أحسن حالاته، هو بالمرتبة 55 في العالم، أي بعد بولندا وهنغاريا ودول شيوعية سابقة.
هل يُتوقع من العامل الروسي، أن يؤيد سياسات بوتين الصناعية، عندما ينخفض الانتاج الصناعي فجأة عام 2017، إلى ناقص 8،4%، ومن المزارع الروسي، ومعظمهم من صغار المزارعين، حينما تتراجع مكانة الزراعة بالاقتصاد الروسي، من 15،4% عام 1990، إلى 4،2% عام 2014، وذلك حسب إحصائيات الصندوق الدولي، علماً أن روسيا تحتوي على أكبر مساحة أراض زراعية في العالم.
هل الأطباء والمرضى والقطاع الصحي الروسي، سيدعمون سياساته الصحية، عندما تفتقر القرى والمناطق النائية، للغطاء الصحي الكافي، ويزداد انتشار بعض الأمراض، مثل فقدان المناعة المُكتسب (الأيدز)، حسب المنظمة المُختصة في الأمم المتحدة، بينما يتراجع في مناطق أخرى كثيرة من العالم. الشيء نفسه يمكن ذكره في مجالات اقتصادية عدة، فلماذا إذن لا يسمح لكل هؤلاء بالتعبير عن مشاكلهم وهمومهم في إطار انتخابات ديمقراطية عن طريق اختيار مرشحين ينطقون بإسمهم ويدافعون عن مصالحهم؟.
20 مليون شخص تحت خط الفقر
نسبة الذين يعيشون تحت حد الفقر، مشكلة اعترف بوجودها وتفاقمها، رئيس الوزراء ميدفيديف، وصل عام 2017 إلى حوالي 20 مليونا، بدل 16 مليونا عام 2014، حسب إحصائيات البنك الدولي، من عدد سكان إجمالي 143 مليون، بدل 149 مليون عام 1992، عند انهيار النظام الشيوعي.
اعتماد الاقتصاد الروسي بشكل رئيسي، على عائدات الغاز والنفط، وعدم وجود سياسة اقتصادية بنيوية فعالة للصناعة والزراعة، بالإضافة للعقوبات الغربية بعد انتزاع القرم، وانهيار أسعار الطاقة، ساهم بشكل كبير بالتدهور الاقتصادي للبلاد.
“توجد بالعالم حالتان بين الدول تصلُحان لأن تكونا لنا درساً، فهما تجربتان تاريخيتان؛ ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية، كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية، كل منا يستطيع استنتاج العبر لوحده من هذه الأمثلة”، هذا ما قاله بوتين أثناء حملته الانتخابية عام 2012، وأردف أيضاً، “أن النظام الشيوعي كان تفاهة تاريخية، وأجبرنا على الركض خلف الدول المتطورة اقتصادياً، كنا بمأزق، بعيدين عن بقية الحضارة بالعالم”.
هذا ما قاله عن روسيا، أين هي روسيا اليوم عام 2018، وهل حقق اللحاق بركب الحضارة العالمية والاقتصاد العالمي المُزدهر؟ الحقيقة أنه استمر بالنهج الشيوعي نفسه حتى ولو تشدق بانتقاده وتجريحه، وهو الرئيس السابق للمخابرات السوفييتية.
وما نراه الآن، هو أن روسيا بوتين، تسير وبسرعة على الطريق نفسه الذي أدى إلى انهيار الاتحاد السوفييتي، وبظروف وشروط أسوأ وامكانيات بشرية ومادية أقل، هو طريق الحروب الخارجية المُكلفة، وسباق التسلح مع الولايات المتحدة، بوتين هو إذن من يُعرض روسيا للخطر ويعطي الغرب من جديد وسائل النجاح.
في روسيا اليوم، تُمنع الصحافة الحرة، ويُسجن المعارضون أو يُقتلون، وتُستعمل العدالة لتكبيل المُعارضة، ويُوجه الإعلام الرسمي كله لصالح النظام، وتمجيد الفرد الواحد القائد المُلهم، واحياء الروح القومية الشوفينية، في هذه الأجواء، تجري الانتخابات الرئاسية ويفوز بها بوتين بأكثر من ثلاثة أرباع الأصوات.
الانتخابات التي يُجمِعُ بها الشعب، هي بالحقيقة وسيلة النظام لتهديد المُعارضة، وإبلاغها أن لا مكان لأي صوت مُعارض، فلو قبل النظام لينجح بنسبة 51 % فهذا سيُجبره على القبول بمبدأ وُجود معارضة، لها الحق بالتعبير والوجود، ومستقبلياً التبادل السلمي للسلطة، هذا منطق الديكتاتوريات لكل الدول، وفي حالات الدول العربية، يرفعون النسبة إلى حوالي 99 %.
العملية الانتخابية هي إذن هدف بحد ذاته، وليست وسيلة لمعرفة القوى الفاعلة بالمجتمع. في هذه الحالة، السلطة الروسية، ستكون عمياء وصماء، لا تسمع المواطن الروسي ولا تفهم مشاكله، فهي ترفض رؤيتها أصلاً. هذه النقطة بالتحديد، من سيؤدي قريباً أو بعيداً إلى تفاقم الأوضاع، والتناقضات مع السلطة، ويكون أحد أسباب التغيير الديمقراطي الحقيقي المأمول، وعودة روسيا القوية بأهلها وثقافتها وعلمها وانفتاحها ونموذجا للحرية بالعالم.
طبيب عربي مقيم في فرنسا
د. نزار بدران