■ «لم تكن إليزابيث باريت براوننغ على الإطلاق تخشى التعبير عن وجهات نظرها في المسائل الاجتماعية والسياسية المعاصرة، وهو موقف جعلها تبرز ككاتبة غير مقلدة ومناضلة. فبينما كتبت الشاعرات المحافظات عن الطبيعة والتقوى الدينية والفضاء المنزلي، فإنّ براوننغ كتبت عن التصنيع والعبودية والزعامة السياسية والجدل الديني والمشاكل التي تعاني منها المرأة في المجتمع وما تعنيه الحياة في العالم الحديث»، بهذه الكلمات وصف سيمون أفيري، باحث في أدب وثقافة القرن التاسع عشر الشاعرة الإنكليزية إليزابيث باريت براوننغ (1806-1861). التي تعد من أعظم شعراء «العهد الفيكتوري» وربما أفضل شاعرة في إنكلترا منذ عهد شكسبير. ورغم منزلتها العالية في سجل الأدب الإنكليزي وشهرتها التي تعدت حدود الجزر البريطانية لتمتد إلى أنحاء المعمورة، تبقى مجهولة إلى حد بعيد في وطننا العربي.
الميلاد والنشأة
ولدت إليزابيث يوم 6 آذار/مارس 1806 في مقاطعة دورهام شمال إنكلترا. اسمها الأصلي إليزابيث باريت، وبعد زواجها من الشاعر روبرت براوننغ سنة 1846، اكتسبت اسم براوننغ. تلقت إليزابيث تعليمها في البيت. كانت شغوفة بالقراءة، وتحب تعلم اللغات القديمة مثل العبرية واليونانية واللاتينية وهو ما مكَّنها من الاطلاع على حضارات تلك الشعوب وآدابها. وقبل بلوغها سن العاشرة كانت قد قرأت أعمال عمالقة الأدب الإنكليزي من أمثال ويليام شكسبير (1564-1616) وجون ميلتون (1608-1674) وأعمال أدباء إغريق بالإضافة إلى أدباء فرنسيين مثل روسو (1712-1778) وفولتير (1694-1778). وهذا ما ساهم في إثراء ثقافتها، وصقل شخصيتها، ورسم مسارها الأدبي والفكري.
التأثير اليوناني
يظهر التأثير اليوناني منذ بداية مشوارها الأدبي، في أول ديوان تصدره وهي صغيرة لم تتعد بعد ﺴﻥ ﺍﻟﺭﺍﺒﻌﺔ عشرة، بعنوان «معركة الماراثون» سنة 1820، وهو ديوان شعر ملحمي يروي وقائع معركة الماراثون سنة 490 قبل الميلاد التي تمكن فيها جيش أثينا وبلاتايا بقيادة ملتياديس وكاليما خوس من إلحاق الهزيمة بجيش بلاد فارس بقيادة الملك داريوس الأول الذي حاول إخضاع اليونان إلى سلطة الإمبراطورية الفارسية رغم تفوق الجيش الفارسي عدديا. ويتضح التأثير اليوناني أيضا من خلال قيام إليزابيث باريت بترجمة التراجيديا الإغريقية Promotheus Bound إلى الإنكليزية. فقد نشرت ترجمتين لهذا العمل: أصدرت الترجمة الأولى سنة 1833، لكنها لم تكن مقتنعة بمستواها حيث قالت في وقت لاحق إنها ترجمة حرفية لا تفي النص المترجم ولا اللغة الانكليزية حقهما، فقامت بإصدار الطبعة الأولى للترجمة الثانية سنة 1850.
الألم والإبداع
عانت إليزابيث باريت من مرض الرئة وهي في سن الرابعة عشرة، وهو ما حملها على استخدام مسكنات الألم بشكل دائم، وهو ما ساهم أيضا في تدهور حالتها الصحية. وبعد سنة من ذلك تعرضت لحادث سقوط نتج عنه كسر في العمود الفقري ظلت تعاني منه مدى الحياة. وتوالت مصائبها، فقد توفيت والدتها سنة 1828. وبعد ذلك بقليل، انهارت تجارة والدها، فاضطر إلى بيع ممتلكاته. وتعاقبت المصائب في حدود سنتي 1837 و1838 حيث ساءت حالتها الصحية مع تفاقم مرض الرئة والذي يرجح أن يكون مرض السل. وفي عام 1840 تعرضت لفاجعة جديدة حيث توفي شقيقها (صمويل) متأثرا بمرض الحمى. وبعدها بقليل تعرضت لصدمة مماثلة حيث فقدت شقيقها المفضل (إدوارد) الذي مات غرقا في منطقة توركي المطلة على البحر جنوب غرب بريطانيا. ورغم المرض المزمن وتوالي المصائب، فإنها لم تستسلم ولم تتوقف عن الكتابة. إذ قامت بترجمة Promotheus Bound إلى الإنكليزية سنة 1833. وقامت بإصدار The Seraphim and Other Poems (السيرافيم وقصائد أخرى) وكان لهذا الديوان صدى واسع لدى الجماهير البريطانية وزاد الشاعرة شهرة.
القصائد البرتغالية
وفي عام 1850، أصدرت ديوان شعري بعنوان:
Sonnets from the Portuguese (قصائد برتغالية) ولم تكن تلك القصائد مترجمة كما يوحي العنوان، بل مجموعة تتألف من 44 قصيدة رومانسية كتبتها الشاعرة معبرة عن حبها لزوجها روبرت. وكانت الشاعرة قد ترددت في نشر هذه القصائد في البداية لأنها كانت تنظر إليها على أنها شخصية لا تليق بالنشر. لكن زوجها أقنعها بإصدارها مؤكدا أن هذه الأشعار الأفضل منذ عهد شكسبير. ولأجل السرية، ارتأت الشاعرة في بداية الأمر أن تمنح الديوان عنوان «قصائد مترجمة من اللغة البوسنية»، لكن زوجها اقترح عليها أن تنسبها إلى اللغة البرتغالية ربما للون بشرتها المائل إلى الداكن وملامحها القريبة من ملامح أوروبيات البحر المتوسط وهو من كان يلقبها «صغيرتي البرتغالية». فكان العنوان في نهاية الأمر «قصائد من البرتغالية « وهو عنوان أساء الكثير من المراجع العربية ترجمته حيث يتردد عنوان «قصائد من البرتغال» مع أن المصادر الأصلية الإنكليزية تشير بوضوح إلى اللغة البرتغالية Portuguese وليس البلد Portugal وهي أخطاء ينبغي تصحيحها لأجل الدقة والأمانة. وليس من شك في أنَّ القصيدة رقم 43 في هذا الديوان هي خير ما كتبت. تقول فيها:
«تريد أن تعرف مقدار حبي لك؟
دعني أحصي لك السبل..
أحبك حتى آخر عمق،
وآخر عرض،
وآخر ارتفاع تصله روحي…»
حياة النضال
إليزابيث باريت لم تكن شاعرة فحسب، بل أيضا مترجمة ومفكرة ومناضلة استماتت في محاربة العبودية واستغلال الأطفال. ففي شهر آب/أغسطس 1843 نشرت قصيدة (صرخة الأطفال) في صحيفة (بلاكوودز مغازين). وقد ساهم عملها في إدخال إصلاحات وإصدار تشريعات لحماية الأطفال من الاستغلال. وكان لها بالغ الأثر في أدباء عالميين من أمثال الشاعرة الأمريكية إيميلي ديكنسون (1830-1886). باريت أيضا رمز من رموز الثبات والصمود وأفضل نموذج للشخصية القوية والإرادة الصلبة والشجاعة والهمة. فقد استطاعت هذه المرأة رغم المرض والإعاقة والألم والمصائب وخيبات الأمل، أن تبقى في عالم الأدب وأن تصنع لنفسها اسما خالدا، ومجدا أبديا. فهي إلى يومنا هذا تعد من أفضل الشعراء الإنكليز، وتعتبر أشعارها من أفضل الأشعار في تاريخ الأدب الإنكليزي بعد أشعار وليم شكسبير. ولعل من أفضل ما خلفت لنا إليزابيث باريت القصيدة رقم 14 من ديوان (قصائد من البرتغالية). تقول فيها:
«إذا كان لابد أن تحبني
ليكن ذلك بلا سبب
عدا الحب نفسه.
فلا تقل أحبها لأجل ابتسامتها
أو لأجل نظراتها
أو لأجل طريقة كلامها العذبة
أو لبراعتها في التفكير، التي تتفق مع ما أريد
والتي تعطي شعورا جميلا بالرضا
في مثل هذه الأيام
ذلك لأن مثل هذه الأشياء،
يا حبيب الروح، ممكن أن تتغير،
وقد يختلف رأيك فيها مع مرور الزمن،
والحب الذي قام يمكن أن يتبدد.
لا تحبني أيضا من باب الشفقة بي،
وأنت تمسح العبرات عن خدي
لأن المخلوق قد ينسى الدموع
فينشق هناؤك على طوله
ويزول حبك عندئذ
لكن أحببني باسم الحب وللحب فحسب
وإلى أقصى درجة يمكنك أن تحب بها،
حبا دائما للأبد».
٭ كاتب جزائري / بريطانيا
مولود بن زادي