بالمطلق، ليسَ هناك «أحداث» أو «حوادث» صادمة، يميط كتاب الصحافي مايكل وولف «النار والغضب: داخل بيت ترامب الأبيض» اللثام عنها، بقدر ما هناك كمّ من «القيل والقال» يرتسم معه إطارٌ من الترهّل والإهتراء السريعين، لإدارة لم يمض على إستلامها دفّة الرئاسة الأمريكية سنة واحدة.
يقتضى التعامل مع هذا الكمّ من «القيل والقال» بحذر، لكن الإنطباع العام الذي يخرج من دفتي الكتاب يتجاوز الطعن في أهلية دونالد ترامب نفسه أو أهلية الطاقم المحيط به. ما كان «النار والغضب» ليحدث هكذا ضجّة لو اقتصرت مضامينه على تقديم أمثلة مسوّغة لهكذا مطاعن. الأهمّ، أنّه يسجّل بأنّ «حاشية» الرئيس نفسها تعتبره بلا أهليّة، وأنّ أفراد الحاشية هم بدورهم بلا أهليّة لأنّ يكونوا بمثابة شبكة تقريرية على رأس نظام رئاسي، وفي قيادة أعتى دولة في العالم، وأنّ ترامب بدوره يتعامل مع مستشاريه والمحيطين به كمعدومي أهلية، إلى حد كبير، بما في ذلك النظرات المتبادلة داخل العائلة الرئاسية.
بعد أنّ انصبّ التركيز لفترة طويلة على سؤال الشرعية (مصدر كل سلطة ورصيدها ومحكّها) من ناحية، وعلى السؤال حول متانة المؤسسات وحيويتها وانتظام علاقاتها ببعضها البعض من ناحية ثانية، ثمّة حاجة، لا تنحصر بدونالد ترامب وفريقه، لإستعادة سؤال الأهلية، وما يستجمعه وولف من مادة، تسلّط الضوء على نموذج محدّد من انعدام الأهلية، حيث هناك فريق يشكك بأهلية رئيسه، وبأهلية بعضهم البعض، ورئيس يشكّك بأهلية فريقه، بل هناك بشكل عام تشكيك متعاظم بهذا الرئيس على مستوى جهاز الدولة الأمريكية ككل: حالة من الشعور المتبادل بإنعدام الأهلية، لا تقابلها حالة نضوب في مصادر الشرعية، أقله بنفس القدر، ولا حالة تعطّل على صعيد المؤسسات الدستورية، بل يمكن القول أنّها تعمل بشكل «إعتياديّ»، وغير مسدود، رغم إنعدام الأهلية على رأس نظام رئاسي.
أكثر من هذا، لا يحتاج المرء إلى التصديق بكل ما تضمنه كتاب مايكل وولف من أجواء، بل يمكنه الإكتفاء بما أطلع عليه من ترامب نفسه في تصريحاته العشوائية منذ توليه الرئاسة، للخروج بالإنطباع التالي: نحن أمام شخص فيه كل الشهوات لكي يكون ديكتاتوراً، ووصل إلى أقوى منصب سياسي في العالم، إنّما هو معدوم الأهلية كي يكون ديكتاتوراً.
نحن أمام حالة «ديكتاتور من دون ديكتاتورية»، وحالته هذه وبدلاً من أن تشدّ النظام الدستوريّ أكثر بإتجاه السلطوية وتجاوز صلاحيات منصبه، تراها تجنح إلى العكس تماماً: فبدلاً من أن يكون «الديكتاتور من دون ديكتاتورية» ديكتاتوراً بعض الشيء، باستخدامه الكامل لصلاحياته المنصوصة، وتعدّيه على صلاحيات سواء، فإنّ سمته هذه، تجعله أقلّ قدرة على ممارسة صلاحياته نفسها. ترامب «ديكتاتور من دون ديكتاتورية» لكنه الآن، رئيس بسلطة فعلية، أقل مما كانت لمعظم أسلافه.
كثيرون حاولوا «عقلنة» ظاهرته من خلال ردّها إلى نظرية الحاكم المتظاهر بالجنون. والفحوى أنّ حاكماً يتظاهر بالجنون، من دون أن يكون ممسوساً به فيستطيع أن يرغم أخصامه على التحسّب من أفعال هجومية قد يقدم عليها، ويتوجب عليه إذاك اظهار وجهه العقلاني وانتزاع مكاسب حصّلها بتخويفه الآخرين من «قناعه» المجنون.
كثيرون أيضاً حاولوا تفسير ظاهرة ترامب من خلال ردّها إلى تفسير مرضيّ، عياديّ، شكل من أشكال «المرض النفسي»، وجنون العظمة أو الجنون الموصوف. بين هؤلاء وأولئك يمكن استذكار القلق الذي أبداه رينيه ديكارت من كون الإنسان ما ان يأخذ بجدية دور المتظاهر بالجنون حتى يمسّه بالفعل شيء من الجنون.
لكن الجنون في حالة ترامب ليس جنوناً، لا بالمعنى النفسي ولا بالمعنى السياسي، إلا بمقدار أننا حيال شخص يعتقد بشكل تلقائي بأنّ الأمور تحتاج إلى شيء من الديكتاتورية لإصلاح حال الولايات المتحدة والعالم، إنّما لم يستطع أن ينتزع التفويض بالديكتاتورية، ولا حمل أحد سواه على الإقتناع به، وأهليته هو، بالتحديد لها، بما في ذلك الفريق المهلهل الذي جمعه حوله.
أن تكون مقتنعاً بالحاجة إلى الديكتاتورية، وبالحاجة إليك كديكتاتور فذ ومنقذ، فهذا ليس بجنون، لا في السياسة ولا في علم النفس. أما أن تسدّ أمامك كلّ السبل لتكون على هذا الشكل، وأنت على رأس نظام رئاسي لأقوى دولة في العالم، ويكون أقصى ما مارسته في السنة الماضية هو توعد كوريا الشمالية بـ»النار والغضب»، فهذا يضيء على مشكلة أخرى، لها جانب «جنوني» بلا شك، لكنه ليس الجانب الأساسي، إنّها مشكلة إنعدام الأهلية، وبالذات إنعدام الأهلية حين تطرح كمشكلة غير متفرعة من مشكلة انعدام الشرعية أو تآكل المؤسسات.
نحن أمام حالة انعدام أهلية رغم وجود قدر غير قليل من الشرعية، ومتانة غير قليلة على صعيد المؤسسات، بل أنّ هذه المتانة هي التي، للمفارقة، لا تزال تحول دون خروج دونالد ترامب من البيت الأبيض، في الوقت نفسه الذي تمارس فيه أجهزة الإستخبارات الأمريكية، في مواجهة عشوائية وانعدام أهلية الرئيس، نشاطية «مجتمع مدنيّ» ضاغط بشكل تراكمي، في مواجهة الرئيس.
أما ما يضاعف المفارقة فهي أنّ الجمهور المؤيد لترامب لا يزال، إلى حد كبير، يرى في كلّ هذا، رحمة، أي أنّه يرى في تخبّط ادارة البيت الأبيض وعائلة الرئيس العلامة بأنّ ترامب هو بالفعل، من خارج هذا الطاقم من المدرّبين على السياسة والنفاق، الذين يرتفعون في الحقل السياسي درجة درجة، بما يشبه السلك، وصولاً إلى المناصب العليا، وأنّ طاقته الكاريزماتية خفتت وفترت لكنها لم تندثر بعد، ولن تندثر طالما هو سليط اللسان، وأنه بلسانه المفطور على «البوليتكلي انكوركتنس»، بمثابة التجسيد لـ»القانون الحيّ» في مواجهة «القانون المجرّد» الذي هو الدستور والحقوق، والقوانين المرعية الإجراء، ومئات آلاف الموظفين المغفلي الإسم في جهاز الدولة الأمريكية.
ترامب حالة غير حصرية من حالات «ديكتاتور من دون ديكتاتورية» عبر العالم. توازيها في المقابل حالات أكثر عدداً من نموذج «الديكتاتورية من دون ديكتاتور»، أي نظام من التسلّط والبطش والمصادرة الأمنية للسياسيّ والمدنيّ، من دون ديكتاتور حيّ وكاريزماتي وسليط اللسان، بل من دون ديكتاتور يملي كلمته الفعلية على من حوله، بل يكتفي وجوده بمنع من حوله من التناحر فيما بينهم. إلى حد كبير، في عالم اليوم، أخذت تتراجع الحالة «المنسجمة» التي راجت في القرن الماضي، حيث كانت هناك ديكتاتوريات على رأسها ديكتاتوريون. أما اليوم، فالديكتاتورية قائمة في بلاد بعينها، والديكتاتوريون في بلاد أخرى.
الديكتاتور من دون ديكتاتورية يقضم، في العادة، بعضاً من النظام الدستوريّ الذي تسلل إلى رأسه، من خلال قفزه على صلاحيات المؤسسات الأخرى، أو تعريضه الديمقراطية القائمة ككل إلى اختبارات أمنية مقلقة (الحالة المجرية اليوم). أما في حالة ترامب، فالديكتاتور «الغريب وسط أهل بيته» من دون أهلية، بإجماع المقربين منه، وكل هذا يؤدي إلى اضرار ترامب بصلاحيته هو كرئيس، وبموقع الرئاسة، حتى باتت تبدو حالة الولايات المتحدة اليوم كما لو أنّها علّقت النظام الرئاسي فيها، إلى ما بعد فترة ترامب.
٭ كاتب لبناني
وسام سعادة
لا اعتقد ان تشخيص الامور يساهم في فهم ما يجري و يدور داخل الادارة الامريكية.
من الواضح ان الميزة الاساسية لأداء هذه الإدارة خلال سنتها الاولى هو الارتباك و سيكون من الخطا تحميل الرئيس او شخصيته مسؤولية ذلك.
هذا الارتباك يرجع اساسا لاختلاف مؤسسات صناعة القرار في امريكا حول كيفية مواجهات التداعيات الكارثية لفشل سياسات الادارة السابقة. وهو وضع لم تعشه اي ادراة منذ نهاية الحرب الباردة. صحيح ان الادارة السابقة وصلت الى السلطة في اعقاب فشل حرب العراق و ظهور الازمة المالية العالمية، و لكن الاختلاف هو ان الادارة السابقة كانت مازالت تملك زمام المبادرة.
في الوضع الراهن، ادت اخطاء او فشل سياسات الادارة السابقة الى فقدان امريكا زمام المبادرة في عدة قضايا دولية رئيسية، و بات عليها مواجهة تحدي الحلف غير المعلن بين روسيا و الصين ضد امريكا و الذي عقد قدرة امريكا على تدبير تحديات مصيرية على الهيمنة الامريكية على العالم، تبتدئ من قدرة احتواء تزايد النفوذ الصيني على شرق اسيا، مرورا بتداعيات الفوضى الخلاقة الناتجة عن ربيع اوباما العربي على نفوذ امريكا في المنطقة، ووصولا الى التهديد المصيري الذي تمثله عودة روسيا الى الساحة الدولية على نظام ما بعد الحرب الباردة.
و كيفية التعاطي مع التحدي الروسي في اطار الحلف غير المعلن بين روسيا و الصين تمثل نقطة الاختلاف الرئيسي بين مختلف مؤسسات صناعة القرار و هو الاختلاف الذي يبرز في شكل ارتباك في اداء الادارة.
و في ظل هذا الارتباك، صارت الوسائل التي كانت في العادة مسخرة لتكريس الهيمنة الامريكية على العالم، موجهة لخدمة موقف كل طرف في هذا الصراع الداخلي. فاصبحت وسائل الاعلام قنوات تسريب اخبار او معلومات بشكل يضر بموقف احد الطرفين، و صارت المعلومات التي توفرها وكالات الاستخبارات و المؤسسات الامنية توضف لنفس الغرض.
و في هذا السياق يحاول اليهود الاستفادة من الوضع عبر ابتزاز الرئيس لخدمة اهداف الكيان الصهيوني و لو على حساب مصالح امريكا اسوة بالادارات السابقة. فجاء هذا الكتاب في اطار محاولات دفع الادارة الحالية لنقض الاتفاق مع ايران. و لكن في ظل الياس الذي يعيشه الصهاينة نتيجة الفوضى الخلاقة التي انقلبت على امريكا و عليهم، فاتهم ان الوضع قد تغير و ان امريكا ليس بمقدورها تحقيق رغبة الصهاينة و لو ارادات ذلك، فقد ضعف الطالب و المطلوب.
اسمح لي يا استاذ سعادة أن ألقب هذا الديكتاتور بدون ديكتاتورية المعتوه بترامب دادا امريكا اسوة بعيدي امين دادا افريقيا الذي كان ملاكما فاشلا يريد ان يصارع العالم بحلبة ملاكمة وديكتاتور فيه مس من الجنون. وأعتقد ان هذا اللقب ينطبق عليه تماما.