كثيرة هي الأسئلة التي تبدو جد تقليدية ومتجاوَزة، من فرط تداولها، وإخضاعها لسيل هادر من المقاربات، التي تتقاطع فيها المرجعيات التراثية بالحداثية، من دون أن ينتهي بها المطاف إلى بناء تصور متكامل، يمكن اعتماده سندا لاستشراف أجوبة شافية ومقنعة، لما تطرحه هذه الأسئلة.
وتحضرنا في هذا السياق إشكالية العلاقة الشائكة، القائمة بين ظاهر النص وباطنه، التي تظل محتفظة براهنيتها المستبدة باهتمام الخطابات الفلسفية والإبداعية، خاصة من حيث امتداداتها المتعلقة بسؤال المعنى، الذي سيكون العتبة الملائمة لإعادة النظر في طبيعة هذه العلاقة القائمة بين البنيتين، حيث يتمحور الحديث عادة حول تصنيفه إلى معنى سطحي، وآخر عميق، وهو تصنيف يُراعَى فيه وضعُ المعنى الباطن والخفي، في المقام الأول، فيما يتم وضع المعنى الظاهر/السطحي في المقام الثاني. بمعنى أن الظاهر لا يعدو أن يكون محض حجاب، يختفي في باطنه المعنى العميق، وهو تصنيف يوهم بكون المعنى الظاهر، ليس أكثر من نسخة مزيفة للمعنى الفعلي والحقيقي، التي تتحدد وظيفتها في تمويه القراءة الأحادية البعد، كي تصرف انتباهها، عن رؤية المعنى الباطني، باعتباره الجوهر الفعلي والمركزي، الذي تتأسس به وفيه الدلالات النصية، بما هي دلالات وجود ، ودلالات كينونة، حيث ينفلت النص من سياق الكتابة، وكذا من سياق الرسم، كي ينفتح بشكل لانهائي على كل من المرئي أو اللامرئي، في انتمائهما معا إلى رحابة الواقع، ورحابة التخييل.
من هذا المنظور، تكون منهجية التأويل، معنية بالكشف عن حدود المعنى الظاهري «الحجاب»، الذي يحول دون رؤية المعنى العميق، حيث نجد أنفسنا أمام عملية تقشيرية، تنفض تلك التراكمات الثقيلة والسميكة المحيطة بالنواة الدلالية المتخفية داخلها، كي تبدو واضحة نسبيا وجلية أمام عين المقاربة. بمعنى أن كل بنية هي في الأصل، خاضعة بالقوة وبالفعل لتلك الثنائية المانوية، القريبة الشبه بثنائية التبر والتراب، الخير والشر، الماء والنار، كما لو أن قدر كل بنية، ومهما كانت هويتها وخصوصيتها، أن تصاب بثنائية ما يجب حذفها ومحوها، وما يجب تثبيته وتكريسه. والحال، إن الظاهر غير مطالب بالاقتصار على ممارسة دور الحجاب، ذي الطبيعة التمويهية، التي تصرفنا عن رؤية ما يعتبر معنى فعليا، لأن الأمر يتجاوز حدود أداء وظيفةٍ، تجعل منه سياجا واقيا، يحمي الباطن من عيون الفضوليين والمتطفلين، ما يستدعي مقاربته هو أيضا في ذاته، ومساءلة دلالاته، أي ليس باعتباره محض عتبة، أو مجرد مدخل أو حجاب، لأن هذه القراءة، وتبعا لنواياها المسبقة، الجاهزة والراسخة بتقاليدها، تُسقط على هاته البنيات الظاهرة، كل ما بحوزتها من أحكام، تفاقم لدى المتلقي الإحساس بثانويتها وهامشيتها.
إن إشكالية تحرير الظاهر من بؤس اعتباره مجرد وسيط، بتوخي قراءته في ذاته، وبعيدا عن أي تقييم يسجنه داخل الحدود الضيقة للعتبات النصية، هي الإمكانية المحتملة لإثراء دلالاته، واستيفاء عناصر مقروئيته، في أفق الارتقاء به من مستوى الظاهر العابر والبسيط، إلى مستوى البنية القائمة الذات، التي يمكن أن يمدنا تكاملها بفُرص اكتشاف إشارات لم تكن متوقعة، بفضل تعريضها هي أيضا، للإنارة ذاتها الموجهة إلى باطن النص. بهذا المعنى، يكون مصدر الخلل، في قراءة الظاهر باعتباره مجرد حد تمهيدي، يعكس أعراضا وإرهاصات، بحضورٍ داخلَ ما تعتبره غيرُ قليل من النظرياتِ الأدبية والفلسفية، الموضوعَ الفعلي للقراءة، والمجسد في باطن النص. علما بأن هذه القراءة المبتسرة، تؤثر سلبا على آلية البحث، في ما يعتبر معنى متخفيا، لأننا وحال انشغالنا بالتخفي من هذا المنظور، فإن كل ما سنوظفه من منهجيات القراءة ومن إستراتيجياتها، سيتمحور حتما حوله، حيث سنكون بهذا المعنى، نحن من أرغمه على تقمص صفة ذلك المتخفي، وأيضا على اتخاذ شكل النواة المركزية في النص، وشكل جوهره الدلالي الأول والأخير. إنها الإسقاطات المسبقة إذن، والمؤطرة بمسلمة استحالة إنجاز أي بناء، في غياب تصور منهجية متكاملة، تعنى بهندسته الظاهرية، قدر عنايتها بهندسته الباطنية، وهي المسلمة التي أدت إلى الإلقاء بذلك الموقع/الباطن، في عمق دائرة المتخفي، والذي تقتضي مقاربته اعتباره امتدادا عضويا وطبيعيا لظاهر النص، حيث ضمن هذا الإطار فقط، يمكن الحديث عن جمالية تخفيه في تعدديتها الملموسة. من ذلك مثلا، وعلى سبيل مزحة غير بريئة، القول باحتمال أن يكون تخفيه ذاتيا، إراديا، وطوعيا، ربما بفعل إكراه لا دخل للآخر فيه، وهي الوضعية التي يساهم عبرها فعل التخفي، في إنتاج حالة من الانسجام والتناغم النصي/الوجودي. إن الاحتجاب بهذا المفهوم، يتحقق نتيجة قرار حرِّ داخلي وذاتي، يتماهى إلى حد ما، مع خصوصية الحضور التي يستدعيها توجه معين من توجهات الكينونة. وفي هذا السياق ينبغي التأكيد على أن المحتجِب، قد يكاشفنا بأعراض احتجابه، فتكون بادية لعين القراءة، أي مرئية بعين ما يَعتمِل فيها من حدوس، خاصة أن المرئي ضمن سياق احتجابه، يمتلك قوانينه المتفردة، التي لا يمكن أن تنتبه إليها العين المجردة، والمعرضة غالبا إلى احتمال افتراسها من قبل المرئي المعلن، الجاهزِ والمعطى، خارج حظوة الحدس.
ومن المؤكد أن تمثل هذه الأعراض، لا يتيسر لغير الرؤية الخبيرة بتقنية الفصل المؤقت لأعراض المحتجب، عن نسيج الظاهر المرئي، وهو ما يجعل الرؤية التي تحاول قراءة الباطن على ضوء الظاهر ككل، معرضة دائما للانحراف عن القصد، ذلك أن الظاهر ككل، يتميز بوجوده الخاص به، الذي تتخلله أعراض حضور بنيات الباطن/المتخفي، ليس باعتبارها البنيات الأساسية والجوهرية، ولكن فقط بالقياس لقدرتها على التسلل/التمظهر، عبر تلك التشققات التي تحضر في ظاهر الجسد النصي، مع الإشارة إلى أن هذا الظاهر، لا يكون مُلِمّاً بحقيقة هذه الأعراض، المنبثقة في التشققات المتوزعة عليه، لأن اهتمامه، يكون في الأصل منصبا إما على استحداث، تشققات من طبيعة أخرى، قد تكون جغرافية، اجتماعية، اقتصادية أو ثقافية، أو منصبا على رأبها. وغير بعيد عن هذا التخفي الذاتي والإرادي، الذي يتميز بأنساقه الخاصة، هناك التخفي القسري، الذي تلجأ إليه البنيات النصية تحت ضغط إكراه ما، حيث لا يستجيب اختفاؤها هنا، لمطلب خصوصية داخلية وذاتية، مادامت/البنيات، في جوهرها مؤسسة أصلا على مبدأ الظهور، حيث يكون نزوعها إلى الاحتجاب، ناتجا عن توجسها من خطورة أن تُعايَن وأن تُرى، من أجل أن تظل في منأى، وفي منجىً من المراقبة، أو المطاردة الخارجية، التي غالبا ما تكون ممارسة من قبل سلطة فعلية، أو رمزية، تتحكم في هندسة سُلَّمِ الأولويات، الذي ليس له أن يتعارض أو يتناقض مع توجهاتها، بصرف النظر عن طبيعة القطاعات، التي تقع تحت وصاية هذه السُّلط، التي قد تكون سياسية، كما يمكن أن تكون عقدية وثقافية. بهذا المعنى، يعتبر الاحتجاب بمثابة رد فعل مباشر على عنف الإقصاء، والإقبار بالمفهوم المادي والرمزي للكلمة، الذي تتم فيه مصادرة حق الظاهر، في الاستمتاع بتجليه، خطابا كان، جسدا أو زمنا حضاريا. إنه مطالب تماما بإخلاء المشهد، وإذا اقتضى الأمر بالاندفان فيه، إن مؤقتا، أو إلى الأبد. فهذه السلطة، بتعدد اختصاصاتها وتجلياتها، هي وحدها الوصية على مصير كل من الظاهر والباطن، حيث تُسنِد إلى أولهما مهمة إخفاء الثاني بستائر ثقيلة، مصهورة في حديد الأوامر، ونحاس التعاليم.
إن الوعي بتعدد هده المستويات، هو الضوء الذي تهتدي به الكتابة إلى ما ترسمه من مسارات، يتفرد كل واحد منها، و من منطلق علاقته الذاتية والموضوعية، والمبررة جماليا وفكريا، برؤية معينة ومحددة لهذا المحتجب/الباطن، حيث سيؤدي غياب الخبرة النظرية والإبداعية، بخصوصية هذا التعدد وبملابساته، إلى اختلاط حابل ظاهر هجين، بنابل باطن أكثر هًجْنة، حيث يتم تكريس ما لا حصر له من المقولات والمسلمات، على قاعدة التبني المطلق والآلي، لباطن مؤطر بتعاليه، على أي سلطة وثيقة الصلة بمستوى ما من مستويات الظاهر، فضلا عن تملك هذا الباطن لسحرية احتجاب، قد تكون وفي حالات جد متعددة، مموهة بانتحالاتها، التي تحاول عبثا، أن ترتقي به إلى مقام جوهرٍ، لا مجال معه لأي مزايدة أو مزاحمة.
لكن ما العمل تجاه ذلك الظاهر، الذي يأبى إلا أن يستحضر في تضاعيفه تفاصيل باطنه؟ حيث سيكون على عين التأويل، أن تكابد من أجل الفصل بين بنيتين، تتماهيان معا، من حيث تواجدهما في ما يتعارف عليه بالإطار الخارجي للقول، للصورة، أو لكل حضور محتمل، داخل مجال الرؤية أو خارجها؟
٭ شاعر وكاتب من المغرب
رشيد المومني
كعادته رشيد المومني متالقا اسلوبا وفكرا
يسرني قراءة تطبيقا عمليا لما تُنَظِرَهُ في مجموع مقالاتك الفلسفية ذات الرمزية المتعددة الابعاد ؛ فتحتاج عندها لمنهج التاويل للنص لما يبدوا اليك ولمستوى وعي قارئ كُلٌّ حسب مستواه العلمي ومقداره سعة مساحات علمه في ارتياد عمق المعنى من خلال بنية النص أيا يكون.أي ان يتواجد النص الذي تتحدث عنه كنموذج تقصده أي أنك تقوم بتنظير على فهم النص. فطروحاتك التي تريد ابداعها مُلك خاص بك. فلماذا تدخل في محاكمات نصوص أخرى وهي كثيرة متعددة الاتجاهات والابعاد والمفاهيم والدلالات وأزمنة إنتاجها. ويؤمن بها بشر كثير وهم أحرار في الفهم والتطبيق والتعليل والتدليل. فرمزية التنظير فلسفيا تكون قسرية مفروضة كدكتاتورية النصوص ومن يؤمن بها ليطبقها على رؤؤس الاخرين حتى بالاكرار والناس خُلِقوا أحرارا؛ ولكن البعض يستعبد الاخرين بكل وسيلة مُبتكرة للسيطرة رمزيا او واقعيا؛ وهنا يدخل التاويل على النصوص والنفوس لإنتاج شرعية المُنتج له كُلٌ حسب ما يقصده في موقعه. واقعيا توجد نصوص لا تحتاج للتأويل بل دلالتها واضحة هذا إنسان. فيمكن لأخرأن يدعي لشخص لا يرغبه لسبب ما هو حيوان!؟. فهنا الاختلاف في تطبيق واقعي بين علمي الدلالة والتأويل في قصد القائل رمزا دلاليا ويستبيح لنسفه التأويل, في حين أن ذلك الانسان بقي واقعيا هو نفسه. فالتأويل هو نوع من التَّخَيُلُ لتبرير وجهة نظره القائل. ولكن توجد نصوص هي فوق مستوى علمي الدلالة والتأويل في المعنى والمبنى. مثلا ” كُلُ نفس بما كسبتْ رهينة” فهذه الجملة هي أعلى وأعمق معنى في التحليل الواقعي والعلمي لتصور تُفَكُر سلوكية الانسان بتحمل نتائج ما أنتجه بوعي او غيره. فتحليل النصوص تحمل ابعادا حسب مثنَظرها ومقصد أهدافه السياسية وما يخفى فيها لمستقبل المجتمع الذي يقصده. فالتأويل يرتبط بالبعد النفسي والقصدي المُخبا في نفس القارئ لتلوين أبعاد النص بإفتراء على النص بعمق دلالاته في الفهم الاستكشافي ربما علميا او مختبريا او واقعيا بلا إقحام التأويل عليه. فعِلْمُ التنظير يرتبط عمليا بنموذج تطبيقي واقعي. فالعقل يكون في عدة مستوياته ضد العقل.فكل وجوده يكون في استفسار :”أفلا تعقلون” ولكنك لم تتناول موقع الشعور في العقل في استلهام فهم النص أيا يكون؟ فثنائيات الطروحات تتصارع باستمرار على الشرعية في كُلٍّ. وهي كلها آنية المقصد والهدف في الزمان والمكان والحالة والظرف وبمن يطبقها وبنتائجها المُرحب بها. فالمنهج يرتبط بالتطبيق للمقصود به.
الأستاذ المحترم ،الدكتور عبد الستار
أنوه بوجهة نظرك المتميزة بعمقها ،ودفتها المعرفية، وأمل أن تجد بعض الأجوبة الشافية لنساؤلاتك في ما سأنشره مستقبلا حول إشكاليات التأويل.
مع تقديري
رشيد المومني
الأخ الفاضل في التأمل والتَّفَكُر والطروحات في البحث.. السيد رشيد المومني المحترم
شكرا لجوابك وآسف إن أزعجتك في تعليقاتي وأنا في خريف العمر أتصيد الوقت للقراءة والتعليق بجانب هوايتي الفِلاحة في الارض والتَّفَكُر واقعيا بعد التقاعد عن العمل. والسياحة في الارض.