إن مصطلح الأدب النسائي، عند العرب، باعتباره أدبا يطرح قضية المرأة العربية، ومشاكلها، وهمومها، لم يظهر، حسب بعض الدارسين، في الساحة الأدبية، إلا في أواخر ستينيات القرن المنصرم. وهو أدب بالإضافة إلى ذلك، يتصدى لسلطة الرجل، واضطهاده للمرأة. وحسب الدارس زيه أبو نضال، فإن الأدب النسوي هو الأدب الذي يكون النص الإبداعي فيه مرتبطا بطرح قضية المرأة والدفاع عن حقوقها . كما يعرفه أحدهم بأنه «الأدب المرتبط بحركة نصرة المرأة وحرية المرأة وبصراع المرأة الطويل التاريخي للمساواة بالرجل». فيما يرى محمد برادة أن الأدب النسوي «مصطلح يستشف منه افتراض جوهر محدد لتلك الكتابة بتمايز بينها وبين كتابة الرجل، في الوقت الذي يرفض الكثيرون فيه احتمال وجود كتابة مغايرة تنجزها المرأة العربية استيحاء لذاتها وشروطها ووضعها المقهور» .
وفي المقابل فإن ما يميز هذا الموضوع هو كثرة المصطلحات والتباسها، بما يجعل المرء في حيرة من أمره، وهو يُقبل على مدارسة هذا الموضوع. فبين الأدب النسائي، والأدب النسوي، والأدب الأنثوي، والكتابة النسائية، والنسوية في الأدب، وأدب المرأة، وغيرها من المصطلحات… مسافاتٌ مسكونة بهاجس الانتصار والترويج لقيم الفحولة تارة، وذلك بجعل المرأة دون مستوى الفاعلية الإبداعية الذكورية، وتارة أخرى مسكونة بهاجس المناصفة في بناء الأنساق الثقافية والإبداعية، بما يضمن للمرأة كامل حقوقها في التعبير عن حركاتها وسكناتها، على قدم المساواة مع الرجل.
إن مسوغات تراجع دور المرأة، وخروجها من دائرة الإبداع اللغوي، يعود، في نظر السعودي عبد الله محمد الغذامي، إلى انتقال الإنسان من نظام «الأمومة» إلى نظام «الأبوة»، أي انتقاله من الرحم المؤنث إلى «علاقة الرجل الذهنية الافتراضية من نسله» . يقول الدكتور الغذامي، في هذا الإطار «…إذ إن تحويل اللغة من الملفوظ إلى المكتوب، ينقلها من العلاقة الحسية وعلاقة الرحم والولادة، إلى حالة ذهنية غيابية… وبذلك أصبحت المرأة خارج اللغة، وراح مسار اللغة الثقافي بعيدا عن أصله المؤنث».
والحاصل أن صوت المرأة اللغوي، تم تغييبه وتهميشه عمدا، منذ الفترات الأولى لتأسيس المجتمعات العربية القائمة على نظام الأبوة. ومع هذا الإقصاء سوف يستأسد الرجل في وضع طرائق التعبير الأدبية (الأجناس الأدبية القديمة)، وذلك بطبعها بطابع الفحولة والذكورة الطوطمية، وكان له ما شاء..
في الشعر، ظل حضور المرأة الشاعرة باهتا، إذ اقتصر في عموم قولها، على بعض الأغراض كالرثاء والفخر. نفكر هنا تحديدا في الخنساء، وقد عاشت في العصر الجاهلي ثم أدركت الإسلام، وكذلك ليلى الأخيلية (العصر الأموي)، ورابعة العدوية (العصر الأموي) بل إن التفات الخطاب الموازي لشعر من ذكرناهن، من الشاعرات، وغيرهن، كان فقط من جهة ما فيه من بكاء ورثاء.
لكن ألا يمكن القول إن الشاعرة العربية، والمغربية كذلك، قد ظلت، على الرغم من هذه الرقابة (الوصاية) الذكورية الممارسة عليها، وعلى الرُّغم كذلك من جعلها مجرد موضوع ثقافي بقصد مُبيّت، تخاتل وضعها هذا، بمكر نسواني، يشي بقدرة قوية على منافسة الرجل بندِّية كبيرة، في القول الشعري، وفي شتى المواضيع، حتى تلك التي ظلت حكرا على الرجل، كالغزل بشتى فروعه مثلا؟
في المغرب، وبشكل مضاد للفحولة، وبكثير من التقية والمخاتلة، ستنشأ في ثقافتنا الشعبية الصحراوية في المغرب، حركة شعرية نسائية، مجهولة الهوية، وسمت بـ»شعر التبراع». وهو شعر يتكون من مجموعة من المقطّعات أحيانا، أو من شوارد من الأبيات أحيانا أخرى، التي ارتبطت جميعها بالغزل المضاد، وذلك استمرارا لما أنتجته الإماء والقواني، في ردهات البلاطات والقصور العباسية والأندلسية.
ففي دراسة للباحثة الصحراوية العالية ماء العينين، اعتبرت هذه الأخيرة، الشعر الشعبي النسائي، المنتشر جنوب المغرب، شعرا نسائيا بحتا، لأنه ليس من حق الرجال الخوض فيه، وأنها لا تحس إطلاقا بأي عقدة من تبنيها لهذه الأطروحة. أقصد الشعر النسائي.
وقد سجلت الباحثة، ملاحظة أساسية، بخصوص السمة الفنية لهذه التجربة الشعرية، قائلةً «إن هذا الشعر يتميز بنوع من الوضوح والمباشرة في التعبير عن العاطفة… والمقصود هنا وضوح المعنى العام وليس الفقر الإبداعي، ذاك أن هذه النصوص على قصر بعضها (بيت واحد) تعتمد الاستعانة ببعض.. الأدوات البلاغية لإحداث الأثر والدهشة من خلال الصور التي تعتمدها الشاعرات.»
وهنا من حقنا أن نتساءل بدورنا: إذا كانت الدهشة والأثر، سمتين أو بلاغتين، في ما بات يعرف الآن بشعر الهايكو، كتقليعة جديدة من تقليعات الشعر العربي الراهن، ألا يمكن القول إن الشاعرات الصحراويات (شاعرات التبراع) قد سبقن إلى هذه التجربة ولو على سبيل الفطرة والصدفة؟ مجرد سؤال.
ولا مراء في أن النماذج الشعرية التي سنسوقها، في هذا الإطار، أخْذا عن الدراسة المعتمدة في هذه الفسحة (دراسة العالية ماء العينين)، ستجعلنا نعيد هذا السؤال مرات عديدة، وبصيغ متعددة. تقول إحدى بنات حسان في التبراع:
حُبُّكْ ذا الطّاري…
ثابتْ… رواه البخاري… (أي حبك الطائ ..صحيحٌ.. ورواه البخاري)
وتقول أخرى :
ومْنينْ نْصَلِّي…
يحْجلّي ونْعَلْ مَلِّ…
أي ما معناه: في عز صلاتي أتذكرك.. فأعيد الصلاة من جديد.
وتقول ثالثة:
يوكي يا الواد
يعمل بغيو
ماه تفكاد
وتقصد المتبرعة هنا بـ«يوكي»، الإعجاب والاندهاش والترحيب. والمقصود بـ«الواد» وادي الساقية الحمراء في الصحراء المغرية. و«بغي» من البغي، وهو الحب والتعلــــــق العاطفي والوجداني. أما «التفكاد» فيقصد به التذكر.
والحاصل أن هذه الكبسولات الشعرية، المروية بصوت المرأة الخفي، ما هي إلا دليل على أن هذا الصوت، قد ظل مخاتلا، في مجال اعتُقد لقرون طويلة أنه من اختصاص الرجل فقط، ألا وهو مجال الإبداع الشعري، وعطفا على ذلك ظل ينتظر المناسبات، على ندرتها، لكي يقول نفسه ويطفو على السطح.
ويمكن أن نذكر هنا إلى جانب شعر التبراع الحساني، شعر العروبيات أو الرباعيات (شعر المرأة الفاسية) على سبيل المثال لا الحصر، الذي يؤكد على أن المرأة المغربية قد ظلت حاضرة في مجال الشعر، وإن بشكل مخاتل، على الرُّغم من أن الرجل قد تسيد في أكناف هذا الفن.
٭ التبراع هو نوع من شعر الغزل النسوي الحساني في المغرب
٭ شاعر وكاتب مغربي
محمد الديهاجي