التبعيات اللبنانية المشبّعة بـ«الخصوصية»

حجم الخط
0

يمكن القول أنّه، إلى حدّ كبير، تعمّقت بشكل متزايد في العقود الأخيرة خصوصية اللبنانيين، مأخوذين جملة، بكل أشكال التعدد والتباين فيما بينهم، قياساً على أبناء المجتمعات العربية، أيضاً بفعل تنامي الخصوصيات الكيانية العربية.
«اللبناني»، مسيحياً كان أو مسلماً، سنياً أو شيعياً، ليس كائناً يمكن المكابرة بسهولة على اختلافه عن المصري والتونسي، عن العراقي والسعودي، بل وعن السوري والفلسطيني. وحتى السمة الترويجية لكائنيته كـ«لبناني» أو كـ»لبنانية»، والتي لعبت التلفزة تحديداً دوراً عظيماً في بثها، لم تقلّل من هذه المسافة بل زادتها، مثلما أن الشقاق اللبناني الداخلي وتأزمه بأشكال مستعصية على كل احاطة وتدبير، زاد بالمؤدى العام هذه الخصوصية، بما يمكن أن يكون لها أو عليها. لم تنتج هذه الخصوصية مشروع دولة أمة جديا، صحيح، ولا كيانية وطنية مستقرة متقبلة لمكوناتها، و«فاطمة» لعلاقاتها مع الجوار، لكنها لم تتحلل كخصوصية أو تبهت. بالعكس تماماً: يمكن الحديث عن مؤشر «تلبنن واعادة تلبنن» صاعد على الدوام!
بالتوازي، خرجت تباعاً المقاومة الفلسطينية بنتيجة الاجتياح الاسرائيلي من بيروت عام 1982، وخرج الاحتلال الاسرائيلي من الجنوب عام 2000 بنتيجة المقاومة المدعومة من سوريا وإيران، خرجت الوصاية السورية من سائر البلد عام 2005 بنتيجة التلاقي بين الضغط الغربي والعربي وبين انتفاضة الناس بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، كل هذا دون أن يمكن أي من هذه المنعطفات، من بلورة ترجمة ايجابية لهذه الخصوصية اللبنانية، مع أنها كانت تتنامى من سنة إلى سنة، ليس فقط بالترويج التلفزيوني لها، وانما على قاعدة تعريف الذات «ازائياً» في مواجهة الآخرين، وخصوصاً أشكال حضور الآخر، غير اللبناني، في الحرب اللبنانية.
لكن الخصوصية اللبنانية نفسها، المتغذية بفعل هذه الدينامية «الازائية» سواء بوجه شعوب عربية أخرى، أو أنظمة عربية أخرى، أو أنماط استعمارية أجنبية، والمتغذية أيضاً من الأشكال، السمجة كما الطريفة، الجدية كما الهزلية، لفلسفة «همزة الوصل بين الشرق والغرب» اللبنانية، ترافقت مع المزيد من الاستتباع إلى ما هو قائم خارج الحدود الوطنية، بشكل يجعلهم أكثر الشعوب العربية تبعية لمرجعيات نظامية وغير نظامية، عربية وغير عربية.
لا شك ان اللبنانيين يحظون بامتيازات «حريات» كثيرة لا يحظى بها عشرات الملايين من العرب في بلدان أخرى، لكنهم الأقل سيادية الآن من جميع الشعوب العربية الأخرى، هذا على الرغم، أو ـ لعله بسبب، من رواج كل المصطلحات التي تفيد نقيض ذلك، من «المقاومة» و«الممانعة» و«الدولة القوية القادرة» في خطاب «حزب الله» وحلفائه، إلى «السيادة» و«الاستقلال» و«العبور إلى الدولة» في خطاب قوى 14 آذار.
وطبعاً، كل يرى تبعية خصمه، وكل يباهي بأن تبعيته أقل وطأة عليه أو على البلد من تبعية خصمه، ولكل نقطة في صالحه على خصمه في آخر الأمر: فهذا تبعيته مؤدلجة ومكلفة دموياً أكثر من الثاني، وذاك تبعيته خاضعة لأحكام مزاجية أكثر من الأول، وهذا يحتفظ لنفسه بحق في تجيير رصيده التبعي أو توزيعه، أو اعادة شحنه بـ«سيادية مؤقتة» يسدد ثمنها لاحقاً، وهكذا.
تنامي الخصوصية اللبنانية، ثقافياً أو اجتماعياً، يستخدم في الحالتين لتسويغ الاستتباع، بدل ان يحصل العكس. فهذا يعتبر أن خصوصية «همزة الوصل»، واللهجة المائعة المطعمة بكلمات فرنسية وانكليزية، فظاظة استشراقية ساذجة، مصطنعة، مستلبة دونية / فوقية، توفر الغطاء القيمي والشعوري للتبعية ولقلة الكرامة الوطنية. وذاك يبحث عن خصوصية مرغوبة ومزعومة لـ«مجتمع مقاوم»، اسبارطي ـ خميني، في مواجهة الخصوصية اللاهية عن قضايا الأمة. وهناك في المقابل من يراها خصوصية لا تساؤل في مكوناتها، بل تمتدح كحصن حضاري في مواجهة الهمجية، وكنموذج رساليّ في التسامح، لكنه يعود في لحظة أخرى إلى خانة «العروبة القصوى» حين يخالها ورقة نافعة بازاء «الفرس»، وكالمعتاد يتلقف «حزب الله» هذه الفكاهة ليدلي بمعهوده، حول اغفال أصحابها لـ»عروبة» محورها قضية فلسطين.
المسيحيون من جهتهم لم تعد «اللبنانوية» سلاحاً ثقافياً يطمئنون اليه كما في أعوام الحرب. أمست اللبنانوية سلاحاً لا يمكن أن يأمنوا جانبه، سلاحاً قابلا للترويض، بأن تتحول «اللبنانوية» إلى حصان طروادة للأسلمة. سلاح لا يمكنه أن يلبي لوحده «حقوقهم المسيحية». اجتهاد المسلمين لبلورة «لبنانويات» بديلة، بدلاً من مواجهتهم فقط بذخائر «العروبة» لم يرح المسيحيين كثيراً. تواجه المسلمين، سنة وشيعة، فيما بينهم، بأنماط مختلفة من العروبة، استتبع التحاقاً مسيحياً بطرفي الاستقطاب المذهبي الإسلامي، ثم أزمة في هذا الالتحاق، لا يزال من المبكر وصفها، لأنّ فك الارتباط الماروني السني من جهة القوات اللبنانية لم يستتبع بالشيء نفسه من الجهة المارونية الشيعية، عونياً. بالتوازي، وقياساً على ارتباط السنة والشيعة بالرياض وطهران، يمكن للموارنة ان يعودوا فيوظفوا عناصر من اللوحة دون أخرى، للظهور مجدداً في حلة «الوردة بين الأشواك»!
في العقود الماضية، احتاجت النخب السياسية إلى تمثل سرديات منها ما يرنو إلى المعقولية ومنها ما هو غريب عجيب، وتقوم كلها على معادلة انها تحتاج للتبعية من أجل استقلال جماعتها عن جماعة اخرى او استقلال الوطن ككل عن الشعوب والانظمة الاخرى. تراكم كل هذه السرديات يرسي في الوقت الحالي على مناخ رهيب من التبعيات التي يفترض في اماكن اخرى من العالم ان تكون «متناقضة» مع الكرامة الوطنية، ومع كرامة كل نفر.. في الحد الأدنى!
في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، طور المفكر الماركسي اللبناني مهدي عامل نموذجا نظرياً «خام» عن التبعية البنيوية، الكولونيالية. لم يقصره على الحالة اللبنانية طبعاً، وان ميز هذه الحالة بشدة تبعيتها هذه، في اطار الدولة الطائفية.
بقطع النظر عن صلاح هذا النموذج النظري (واحد من بين نماذج ماركسية عالثمالثية كثيرة تقوم فكرتها على ضعف البرجوازية الوطنية) ودرجة هذا الصلاح، فإن التبعية كمعطى أساسي تنطقه الجماعات اللبنانية حرية واستقلالاً ومقاومة وممانعة، هو معطى لا يختزل في وجه واحد للتبعية: هي علاقات على مد الاجتماع السياسي اللبناني ونظره، هذا مع امكانية تمييز أصناف أوليغارشية، وأخرى برجوازية صغيرة، من سرديات تورية تبعية الذات والتشهير بتبعية المخالف.
مفارقة هذه العلاقات انها تتغذى بالفعل وتشبّع، مما هو مفترض فيه، ان يستثمر لصالح تقنين التبعيات: الخصوصية اللبنانية، ومنطق «البلد الوحيد الذي». بازاء مشهد مستتبع إلى هذه الدرجة، ومستهلك لمستحضرات السيادة في الوقت نفسه إلى هذه الدرجة، ومتغذي من خصوصية لبنانية حقيقية وليس فقط مصطنعة أو مزعومة. وحدها حكمة «الكون كالآخرين» قد تكون فاتحة لإستعادة «حريات الرئة».

٭ كاتب لبناني

وسام سعادة

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية