التجهيل والتضليل والقمع من أهم وسائل الثورة المضادة

حجم الخط
0

في مثل هذه الايام قبل ربع قرن كانت هناك كوة ضيقة يتسرب منها النور إلى العالم العربي، خصوصا منطقة الخليج. يومها كان الغرب، ممثلا بأمريكا، يتمتع بقوة نفسية ومعنوية كبرى بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وخوض اكبر حرب معاصرة ضد القوات العراقية في الكويت. ولم تكن ظاهرة الإرهاب بحجمها الحالي. فكان الغرب يتباهى بامرين: ديمقراطيته وحماسه لمنظومة حقوق الانسان. ونتيجة لذلك حدث شيء من الانفتاح في العالم العربي. ففي السعودية وضع في 1992 ما سمي «نظام الحكم» في المملكة الذي صدر عن الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود بالأمر الملكي رقم أ/90 وتاريخ 27/8/1412 هـ بخصوص طريقة الحكم وتم تشكيل لجنة برئاسة الأمير نايف لوضع النظام الأساسي للحكم. ونجم عن ذلك لاحقا مجلس الشورى الذي ما يزال قائما وان لم يكن له دور يذكر. وخففت حكومة البحرين قبضتها الأمنية فافرجت عن بعض المعتقلين وسمحت لبعض المنفيين بالعودة وأنشأت مجلس الشورى كذلك. كان الأمل يراود الكثيرين بان اوضاع الحريات في العالم العربي سوف تتحسن، وان من غير المعقول ان تتراجع الاوضاع إلى المستوى الذي كانت عليه في الثمانينيات حيث القمع الواسع على كافة الصعدان. حينها كان الرأي العام العربي بشكل عام يقظا ازاء السياسات الأمريكية والاحتلال الاسرائيلي. وكانت أمريكا تسعى لتلميع صورتها بعد موجة الاحتجاجات التي شهدها العالم العربي قبيل حرب الكويت في 1991، فمارست شيئا من الضغوط على الانظمة لتخفيف القبضة الامنية. بعد ربع قرن يبدو الوضع مختلفا تماما عما كان متوقعا. وبدلا من ان تؤدي ثورات الربيع العربي لانفراج عام اصبحت قوى الثورة المضادة أشرس مما كانت عليه، وأصبح التغول الأمريكي والاسرائيلي غير مسبوق، بينما ازدادت رقعة الاستبداد في اغلب البلدان العربية خصوصا منطقة الخليج.
اليوم اصبحت سجون نصف دول مجلس التعاون الخليجي مكتظة بالسجون، ويوما بعد آخر تتراجع «المكتسبات» التي حققتها الشعوب العربية بنضالها الكبير وتضحياتها الواسعة. ويمكن تقديم مشروع قناة «الجزيرة» دليلا لما انتجته «كوة النور» المذكورة. ففي المرة الاولى في التاريخ العربي المعاصر، وجدت عناصر المعارضة العربية شاشة تلفزيونية تستضيفها وتوفر للجماهير فرصة الاستماع لوجهات نظرها. ومع المؤاخذات الكبيرة على ذلك المشروع، ومقولات علاقاته مع «اسرائيل» او «بي بي سي» او الدعم الأمريكي، فقد كان طفرة نوعية في الاعلام العربي. وحظي ذلك المشروع بقبول الرأي العام العربي واعتبر انجازا لظاهرة الاعلام الغربي الليبرالي. فما الذي تغير حتى اصبح النظام الرسمي العربي لا يحصر موقفه بشجب ذلك المشروع فحسب، بل يطالب بوقفها. ولم يكتف الغربيون، خصوصا الأمريكيين، بموقف التفرج ازاء تلك المطالبة فحسب، بل بالمشاركة في طلب وقفها. وتمثل «الجزيرة» برغم هفواتها، المثال الاوضح على ما تمخض عن حقبة النشوة الغربية المذكورة، شأنها شأن مقولتي الديمقراطية وحقوق الانسان اللتين تحمس الغربيون لهما كثيرا وكل ما ارتبط بمقولة «النظام العالمي الجديد» التي طرحها الرئيس الأمريكي الاسبق، جورج بوش الاب، وهو في نشوة الانتصار. غير ان التداعي السياسي والاقتصادي والامني خلال الحقبة اللاحقة اوصلت الغربيين إلى ما هم عليه اليوم من تراجع في القيم المرتبطة بالديمقراطية وحقوق الانسان. وخلال عهد بيل كلينتون. اما جورج بوش الابن فقد أعاد حالة الاحتقان السياسي على المستوى الدولي وجسد أكبر تراجع عن منظومتي الديمقراطية وحقوق الانسان، في ردة فعل سلبية وهدامة لحوادث 11 أيلول/سبتمبر الإرهابية. وهذا التراجع كان عمليا، فقد مارست أمريكا التعذيب عندما أقر الرئيس نفسه استخدام اسلوب «الايهام بالغرق» لسحب اعترافات من معتقلي تنظيم «القاعدة»، وهي ممارسة اعتبرتها المنظمات الحقوقية تعذيبا. وأقامت أمريكا سجونا سرية في ثلاثين دولة نقل اليها المتهمون بالإرهاب في رحلات جوية سرية بعد ان تختطفهم القوات الأمريكية من الشوارع او المنازل في كافة انحاء العالم. وقال بوش الابن كلمته الشهيرة التي اعتبرت العالم قطبين متضادين: من ليس معنا فهو مع الإرهاب. وكان هناك تعويل على باراك اوباما لاعادة التوازن للسياسة الأمريكية ولكن المؤسستين العسكرية والاستخباراتية كانتا اقوى منه، فلم يحقق الكثير من وعوده. ويسجل لاوباما قوله مخاطبا زعماء دول مجلس التعاون عندما جمعهم في كامب ديفيد: ان التهديد الأكبر «لحلفائنا العرب يأتي من داخل دولهم أكثر مما يأتي من إيران»، مشيرا إلى «السخط داخل بلادهم بما في ذلك سخط الشبان الغاضبين والعاطلين والإحساس بعدم وجود مخرج سياسي لمظالمه». وقال في كلمته الافتتاحية للقمة العالمية للحكومات التي عقدت في دبي: «عندما تستثمر الحكومات فعلا في مواطنيها وتعليمهم ومهاراتهم وصحتهم، وعندما تحترم حقوق الإنسان، فإن الدول تصبح أكثر سلاما وازدهارا ونجاحا».
المشهد تغير كثيرا منذ فوز دونالد ترامب بالرئاسة الأمريكية. اليوم يشعر بعض حكام دول مجلس التعاون الخليجي ان انظمتهم السياسية مدعومة بقوة من قبل واشنطن، وان قمة الرياض التي عقدت في شهر مايو غيرت التوازن الاقليمي ضد مطالب الاصلاح والتطوير، ومع الحفاظ على الانظمة السياسية القائمة، ودعم التوازن السياسي الذي يحمي المصالح الغربية والاسرائيلية ويتصدى لمشروع التغيير والمقاومة. وهذا يفسر بعض التطورات اللاحقة خصوصا ازمة الخليج الحالية وتصعيد القمع ومصادرة الحريات. فالتحالف الرباعي المعلن الذي اعلن استهدافه قطر يمثل ضلعا من مربع تمثل أمريكا وبريطانيا و»اسرائيل» اضلعه الثلاثة الاخرى. ومن انعكاسات هذا التحالف استهداف الحريات العامة خصوصا الاعلامية منها. فاذا كان لوسائل التواصل الاجتماعي خصوصا تويتر، دورها في تأجيج الرأي العام خلال ثورات الربيع العربي في 2011 فان هذه الوسائل اصبحت الآن محكومة بقوانين قمعية تصادر حرية الرأي والكلمة الحرة.
وهناك ثلاث دوائر تحكمها هذه القوانين: الاولى ان حكومات التحالف الرباعي المذكور اصدرت قوانين تجرم من يتعاطف مع الشعب القطري. ففي 7 يونيو أعلن النائب العام لدولة الإمارات حمد الشامسي أن «إبداء التعاطف تجاه قطر، أو الاعتراض على موقف الإمارات وما اتخذته من إجراءات ضد حكومة قطر، يعد جريمة يعاقب عليها القانون بالسجن والغرامة». وتابع أن «إبداء التعاطف أو الميل أو المحاباة تجاه تلك الدولة، أو الاعتراض على موقف دولة الإمارات وما اتخذته من إجراءات صارمة وحازمة مع حكومة قطر.
الدائرة الثانية تتصل بتضييق حرية الصحافة بشكل غير مسبوق. وفي هذا الجانب اصدرت وزارة الاعلام في البحرين في 4 يونيو بيانا مقتضبا نشرته وكالة أنباء البحرين الرسمية «بنا»: «قررت وزارة شؤون الإعلام وقف إصدار وتداول صحيفة الوسط حتى إشعار آخر، لمخالفتها القانون وتكرارها نشر وبث ما يثير الفرقة بالمجتمع ويؤثر على علاقات مملكة البحرين بالدول الأخرى».
الدائرة الثالثة ترتبط بالموقف ازاء قناة «الجزيرة» القطرية التي تأسست في 1996 وانطلقت من الدوحة بعد ان منحها الأمير آنذاك 150 مليون دولار. واشتهرت بمهنيتها من جهة وفتحها الباب امام «الرأي الآخر» لتوفر للمعارضين منبرا للمرة الاولى في العالم العربي. وكانت مثيرة للجدل منذ ايامها الاولى خصوصا من قبل السعودية والبحرين. وتضمنت الشروط الثلاثة عشر التي قدمها السعودية وحلفاؤها لقطر كشرط لانهاء الازمة غلق قناة الجزيرة، الامر الذي استنكرته المنظمات الحقوقية الدولية. فاعتبرته منظمة هيومن رايتس ووتش « ليس عقابا لقطر، بل هو عقاب لملايين العرب في المنطقة بحرمانهم من تغطية إعلامية مهمة». وهكذا دخلت منطقة الخليج نفقا مظلما آخر قد يؤدي بالجميع إلى الهاوية.

٭ كاتب بحريني

التجهيل والتضليل والقمع من أهم وسائل الثورة المضادة

د. سعيد الشهابي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية