التدين الإجرائي

كتب علاء الأسواني في مقال له بعنوان «التدين الشكلي» حول إشكالية سبق لي أن تناولتها في هذه الزاوية وفي زوايا صحافية أخرى، تدور حول السؤال المهم الذي صاغه في مقاله: «كيف يمكن أن نكون الأكثر تدينا والأكثر انحرافا في الوقت ذاته؟» يرى الدكتور أن مجتمعاتنا تعاني من «انفصال العقيدة عن السلوك» أو «انفصال التدين عن الأخلاق» وهي الظاهرة التي أجدها الأكثر إبهارا وغموضا بين الظواهر الإنسانية العامة، حيث تستدعي هذه الظاهرة تساؤلا عن معنى وطبيعة شعور الخوف في النفس الإنسانية والكيفية التي يحور بها الإنسان هذا الشعور للحصول على مبتغاه في النهاية. فالإنسان الذي يؤمن حقيقة بالوجود الإلهي، بوجود نظام عقوبة وإثابة يتجليان في «موقعين حقيقيين» هما موقعا الجنة والنار، كيف يستطيع أن ينفصل عن النظام الأخلاقي من دون أن يتملكه خوف شللي مما قد ينتظره من عذاب أو حرمان حارقين؟
يضرب الأسواني أمثلة عدة لهذا التناقض الديني الأخلاقي لا تبتعد كثيرا عما نختبره جميعنا في حياتنا اليومية: شبان يتحرشون بالسيدات صباح يوم العيد بعد صيامهم رمضان، شرطة يعذبون الأبرياء، أطباء وممرضات يسيؤون معاملة المرضى والفقراء، طلبة يمارسون الغش الجماعي، وأضيف أنا لأمثلة: مؤمن ملتح يشغل وساطاته ليتعدى بها على حقوق الآخرين، محجبة ورعة تذل العاملة في منزلها، مسلم مخلص يستخرج ورقة مرضية مزورة ليتغيب بها عن عمله، ملتزمة منقبة توسط نائبا في البرلمان ليصلها راتبها من دون أن تضع قدما في مقر عملها. لا يكاد يمر يوم من دون أن تتوالى هذه الصور علينا حتى باتت صور مكررة طبيعية من حياتنا اليومية، حيث تشكل طبيعية هذه الصور اللاأخلاقية أشد درجات الخطورة على مجتمعاتنا وأكثرها تهديدا لأمننا واستقرارنا الإنسانيين.
يفسر الأسواني هذه الظاهرة بقوله: إن «قراءة الدين المنتشرة الآن إجرائية أكثر منها سلوكية. بمعنى أنها لا تقدم الدين باعتباره مرادفا للأخلاق، وإنما تختصره في مجموعة إجراءات إذا ما أتمها الإنسان صار متدينا». وقد قرأت سابقا تحليلا مثيرا يفيد بأنه لربما التدين بحد ذاته كسلوك يشجع البعد عن الأخلاق، من دون ذنب للدين نفسهن ولكن بسبب من طبيعة النفس البشرية، حيث يشعر الإنسان أن تدينه وإنتظامه في الإجراءات التعبدية يعزلانه عن الإثم ويحميانه من العقوبة، كما لو أن التدين كفيل وحده بمحو بقية الآثام، كما لو أن المؤمن المتدين معفي من الحساب. لذا ولأن المتدين يشعر برفعته عن بقية العالم وبقرب من وعلاقة خاصة مع الخالق، أشبه بالوساطة، فهو يعتقد أن مخالفاته اغير الإجرائية، سيتجاوزها الله من دون أن تقع ويقع هو معها تحت طائلة العقوبة الإلهية. أتذكر موقفا شخصيا لي مع قريبة ملتزمة دينيا، حريصة فرائضيا، دار بيني وبينها حوار حول الانتخابات التي كانت هي تساند إبانها قريبا لنا تعلم كلانا عن عدم مناسبته للمنصب، وحين سألتها الا تخاف الله وهي تصوت لمن لا يستحق، أتذكر تماما ردها المختصر: وما علاقة الله بالموضوع؟
ويختم مقاله بقوله: إن «الأخلاق بلا تدين أفضل بكثير من التدين بلا أخلاق» وأضيف أنا: إن الأخلاق بلا تدين لربما هي الأفضل والأكثر حقيقية بالمطلق. فالإنسان الذي يمارس حياته بأخلاقية لا بواعز من تدينه أو من خوفه من عقاب أو من رغبته بثواب لاب د أنه أكثر حقيقية وأكثر إخلاصا للمبدأ الأخلاقي من نظيره المدفوع برغبة أو بخوف. لا أدعي هنا أن التدين متناقض والأخلاق، ولكنني أقول إن الأخلاق التي تنبع من التدين وحده وما يصحبه من مشاعر الرغبة والخوف هي أخلاق مهزوزة يمكن أن تتطوع وتتشكل بل وتختفي بفتوى أو بتفسير، فالمؤمن الذي يمتنع عن السرقة مثلا إلى أن تأتيه فتوى تسمح له بالنيل من أموال الغرب على اعتبار أنها أموال كفار قد طوع أخلاقياته المطاطية التي تتجاوب ومخاوفه ورغباته، فسمح لنفسه بكسر المبدأ الأخلاقي من منطلق ديني. وعليه فإن المتدين صاحب الأخلاق الحقة هو الذي تتعدى أخلاقه الحيز الديني الخاص به إلى الحيز الإنساني العام، فتكون أشمل من منطلقاته الدينية وأبعد من طموحه في الثواب وخوفه من العقاب. يمكن للتدين بحد ذاته إذا أن يكون تحديا كما هو مساعدا أخلاقيا، ويبقى على المتدين أن يطوع حتى تدينه ثباتا على الأخلاقيات العامة، وبذلك فقط، بتقديم الأخلاق على التدين، تكتمل الصورة الإنسانية وتستتب الحياة الأخلاقية.

التدين الإجرائي

د. ابتهال الخطيب

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سلام عادل(المانيا):

    في المانيا وعدد المتدينين او المؤمنين بحددود 60 % في اي مكان من العمل سواء في مصنع كبير او ورشة صغيرة اذا ترك الانسان اي حاجة او نساها سيعود بعد شهر ليجدها بنفس المكان والسؤال هل هذا بتاثيرالدين ام انه السلوك العام للمجتمع والامر ينطبق على الدنمارك وهولندا التي يمكن اعتبارهما دولتنان اغلبية السكان ملحدين او لا دينيين.فالدين لا يعلم الاخلاق مهما اراد المتدينيين لوي الحقيقة بل يسيء لها لانه يسمح بالمغفرة بمعنى اخر يدفع كفارة

    1. يقول Ossama Kulliah أسامة كليّة سوريا/ألمانيا:

      أخي سلام عادل كلامك صحيح ولكن إلى حدما!. قبل عدة أيام كنت في مكتبة الجامعة وغادرت المكتبة لأحضر مشروباَ فقط, حوالي عشردقائق, وتركت الحاسوب الشخصي (Laptop) مع بعض الدفاتر والأوراق على الطاولة في إحدىقاعات المطالعة حيث كنت أقرأ وأُنحز بعض الكتابات العلمية, وعدت مسرعاَ لكن حاسوبي لم أجده!. وكل محاولاتي وبالتعاون مع إدارة المكتبة (وقدمت شكوى إلى الشرطة) باءت بالفشل. والآن بعد أربعة أيام يبدو أنني فقدته والمشكلة كل المعلومات المحفوظة بداخلة منذ حوالي ٨ أشهر هي مفقودة الآن, وقد قلت لأصحابي صدقوني أنا سأسامح السارق إذا أعاد لي المعلومات وليأخذ الحاسوب مع أنه ليس قديم فقد اشتريته قبل عامين فقط. طبعاً مثل هذه الأمور لاتحدث كثيرا لكنها تحدث أحيانا!. الآن أحاول إعادة ترتيب عملي من جديد وقلما أجد وقتاَ كافيا لمتابعة المقالات والتعليقات في القدس العربي.

  2. يقول خليل ابورزق:

    كان يعمل لدي موظف متدين لا سيما شكليا و لكنه عدواني و مهمل في مواعيده و فوضوي فيما يتعلق بواجباته الوظيفية و كنت بالطبع استنكر هذه الازدواجية. لا سيما وان شعارنا كان “ان الله يحب اذا عمل احدكم عملا ان يتقنه”.
    وحدث انه كان لدي موظف آخر متدين عاقل كفء محترم فناقشته في حالة ذلك الموظف الذي يعرفه جيدا.. فكان جوابه ان قسوة طباع هذا الشخص و ميله للاهمال و الفوضى هي صفات موجودة فيه اكتسبها من بيئته و ظروفه و تقاليد جماعته. و ان تدينه قد خفف كثيرا منها. و لولا تدينه لوجدته قد ضرب هذا و دمر ذاك و اساء كثيرا.
    المشكلة ليست في الدين و لا في الدعوة يا أستاذة

  3. يقول محمد حاج:

    د. إبتهال : ما المانع إن كانت الأخلاق ملازمة للتدين ، فكلاهما مكمل للآخر ولا يجب الفصل بينهما ، فكما أن المتدين شكلا فقط يسيء للدين فالخلوق الغير متدين يسيء للأخلاق لأنه لم يمارس تلك الأخلاق عن وازع ديني بل من تقاليد موروثة وعادات أسرية ربما.
    صحيح أن البعض من المتدينين يسيئون إلى الإسلام بتصرفاتهم الهوجاء ، لكن الأصل أن التدين مدعاة إلى الأخلاق الكريمة .

  4. يقول Faroug:

    عندما يعطيك المفهوم الديني بأنك افضل من غيرك فقط لانك ولدت ولم تختار هذا الدين او ذاك فهذه بداية اللاأخلاقيه.

  5. يقول تونسي ابن الجمهورية:

    انا اسميه الإسلام الاستعراضي ….الشكل يغلب على المضمون ….نحن نعيش فى مسرحية كبرى ….لذالك يجب أن يؤدوا الدور إلى الآخر….تحيا تونس تحيا الجمهورية

  6. يقول المغربي المغرب:

    تحياتي الى د/ ابتهال على هذا التميز المعرفي المشرف للمراة العربية والمسلمة ، علما بان اكبر ظلم يلحق بالمراة هو التنميط ….وهي جريمة يشترك فيها الغرب والشرق …كل بطريقته..!!!واما عن موضوع المقال فلا شك ان اكبر اشكال كان من الجدير التوقف عنده…هو الفصل المنهجي في تحديد المفاهيم بين الدين كمصدر للفكر الاسلامي وبين مناحي هذا الفكر المختلفة..وبين مختلف العلوم التفصيلية..، لان اسناد مدلول او مفهوم الى الدين مباشرة يعكس نوعا من التقصير ولا اقول القصور في تمثل الدور الاستنباطي للانسان والطرق والكيفيات والخلفيات المعتمدة في ذلك ..وهي على العموم وساءل اجتهادية تخضع لمقاييس الخطا والصواب…ومن هنا داب الكثيرون على ممارسة التعسف المقصود في ربط بعض النظريات والاراء والانطباعات بالدين مباشرة من اجل اكتساب القدرة على مناكفة الاخرين على سبيل المصادرة..او تعمد تشويه الدين نفسه بما يمكن ان يربط به بالوصف فقط……،واعتقد اننا لو تناولنا مثل هذه المواضيع بهذه الصراحة المنهجية فلن يجد المتطفلون والمتكسبون واصحاب البزنس الثقافي والعلمي طريقا للتجني عل دين الله والتلاعب بخلق الله.وشكرا.

  7. يقول Harry/uk:

    عزيزي الراقي … تونسي ابن الجمهورية
    اسعد الله اوقاتك .. دائما اتابع تعليقاتك .. و دائنا ينحني لها قلمي احتراما و تقدير
    ارق تحياتي

    1. يقول تونسي ابن الجمهورية:

      @harry: شكرا سيد Harry على هذه الكلمات ذات الدلالة على رقى اخلاقك انا احاول ان ادافع عن قناعة خاصة يمكن اخطى و يمكن أن اصيب المهم يجب ان نبقى فى كنف الاحترام المتبادل لنتعلم ان نتناقش و نكتشف اننا ربما مختلفون و لكن يمكن ان نعيش مع بعض…… و الله احساس متبادل ….و بالتونسي يعيشك برشة

  8. يقول ابن الوليد. المانيا.:

    كل الديانات وجدت اساسا لترتيب المجتمع اخلاقيا بنشرها مجموعة من القيم. الاسلام في رايي هو اوج القيم
    الانسانية. و هذا بشهادة جهابدة الفلاسفة حتى الملحدين منهم. لكن كل فكرة، يمكن استعمالها استعمالا مشوها،
    ان كانت دينية، سياسية، اجتماعية، اقتصادية … الحل اذا هو وجود ميكانزمات المراقبة، كي نعرف هل نحن ما زلنا
    على صواب ام لا، لتصويب الاستعمال، لتجديده طريقة هذا الاستعمال، لتطوير و مواكبة العصر.
    .
    عادة، هذه الميكانزمات لا تنطلق من نفس المسلمات الفكرية لما تراقبه، و هذا هو للاسف المشكل في مجتمعاتنا
    الاسلامية، فالفكرة السائدة للدين يستحيل معها وجود منظومات فكرية اخرى تمارس الرقابة عليه، و هو بدوره
    يمارس الرقابة عليها. فنرى بوضوح تشوهات عدة، في السلوك و حتى في الاخلاق الى حد العنصرية باسم الدين
    مثلا، لكن ما باليد حيلة … لا يوجد من يعادل الكفة مثلا، كالفلسفة المجردة من كل لاهوت و روحانيات. يبقى
    رجال الدين، الطيبين منهم، يحاولون اصلاح ما فسد من الداخل، و ندور في دوامة و نسبح في ثخمة المنتوج الديني حولنا،
    من وعض صباح مساء، دروس، نقاشات، كتب، فضائيات … لكن لا شيئ يتحرك، و لن يتحرك شيئ … ما دام الدين يحرم على
    نفسه التواجد جنبا لجنب مع منظومات فكرية قوية مختلفة كالفلسفة و المنطق، هي كذلك تشاركه في القيم، يستفيد منها،
    و تستفيد منه لاجل المجتمع. و لن يتاتى هذا الا بحرية الفكر.
    .
    كل شيئ مرتبط بحرية الفكر، فهو الالف و الياء، و بدونه يفسد كل شيئ، حتى ان كان تدينا بدين الاهي.

  9. يقول فؤاد مهاني- المغرب:

    فالدين هو دين المعاملة قبل كل شيء فالأخلاق الحسنة هي مزايا فطرية إنسانية فكل يولد في هذه الدنيا على الفطرة الإسلامية فأبواه هم من يهودانه او يمجسانه أو ينصرانه.فحتى كفار قريش في الجاهلية معروفون بمكارم الأخلاق كالكرم والصدق فالصحابي الجليل أبا سفيان كان يرد على كل أسألة هرقل بكل صدق قبل إسلامه بدون أن يكذبة كذبة واحدة على الرسول محمد (ص) رغم أنه كان أشد عداوتا للنبي الأكرم بل وحاربه وحتى أبو جهل عندما سئل عن النبوة المحمدية هل هي كاذبة أو لا قال ويحك ماذا تقول إنه نبي. ولكن لأسباب معروفة رفض الإسلام وحاربة حتى مات كافرا.لذا فإن رسولنا الاكرم قال “إنما بعثت لأتمم مكارم الاخلاق” لاحضوا انه قال لأتمم ولم يقول لأعلم.
    إننا نعيش في انفصام أخلاقي،متاجرة بالدين سواء على مستوى أنضمتنا ونخبنا السياسية أو مجتمعاتنا الإسلامية حيث نرى هناك بعد صارخ ما بين المباديء الدينية وما يجري على الأرض،ممارسة للسياسات القذرة والبرغماتية. فالفوز بالجنة ليس بإقامة الشعائر الدينية من صوم وصلاة ولكن بالمعاملة والخلق الحسن فقد قال رسولنا الكريم في حديث نبوي شريف “إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا و ضرب هذا فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار”
    لولا الوازع الديني ولولا نعمة الإسلام لأصبحنا كالوحوش الكاسرة ولصرنا نأكل بعضنا بعضا ففصل الدين عن الأخلاق ربما قد لا يوافقك عليه أغلب المسلمين وأنت أعطيت مثلا لسيدة ملتزمة دينيا عندما سألتها عن عمل غير أخلاقي وكانت إجابتها لك أن لا دخل للدين بذلك ربما لو لم تكن هذه السيدة متدينة لكان جوابها لك غليظا قد يصل للسب والشتم ولكن وازعها الديني دفعها للإجابة بأدب وهذا مشكل مطروح لهذا الإفصام كما أسلفت سابقا ولهذه الأمية الدينية إن جاز التعبير التي تحبل بها مجتمعاتنا العربية رغم هذه الصحوة الإسلامية الكبيرة التي نرجو أن نصل بها إلى درجة أرقى وهي الإيمان

  10. يقول أفانين كبة - مونتريال - كندا:

    مقال رائع ! للأسف هذا هو الواقع وما يحصل . فمن نشأ وتربى على الكذب والاحتيال والغش والخداع واللف والدوران ، فمن الصعب جدا تغييره حتى وأن حرص على ممارسة الشعائر الدينية بحذافيرها ، فلن يُغير منه شيئا ً، لذا نراه يلجأ الى الحيل الشرعية وماأكثرها وما أكثر فتاويها !

1 2 3

إشترك في قائمتنا البريدية