التزام أسبوعي

حجم الخط
3

■ يسألني الأصدقاء الذين يتابعون مقالتي الأسبوعية هل من مشروع يتبع هذه الأفكار الأسبوعية التي أناقشها؟ أم أنها مجرد مقالات ينتهي دورها بانتهاء الأسبوع، كموجات البحر موجة تأخذ موجة، ثم يأتي النسيان بعد أن تهدأ تلك الأمواج ليجرفها جميعها إلى قاع مجهول.
والحقيقة أني لا أختلف عن أي كاتب آخر، أحيانا أشعر بأن كل كلمة أخطها مهمة، فأحتفظ بها، وهذا ينطبق على قصاصات كتبتها في سن المراهقة، لا تزال تختبئ في أدراج خزائني وكأنها مجوهرات ثمينة، رغم بساطتها المضحكة في الغالب.
كما أسفت على بعض مقالاتي ونصوصي الشعرية التي ضاعت، بدون أن أنتبه كيف، ما ضاع مني خلال أسفاري، وما ضاع مني خلال انتقالي من بيت إلى بيت، حسب ظروف دراستي وعملي، ومنها ما أنقذه عمر النضج كما أسميه، حين أصبحت أصنف نصوصي حسب نوعها ومحتوياتها، وأجمعها في ملفات خاصة، متأملة أن أصدرها في كتب تباعا حسب أهميتها، وقلة هي النصوص التي وضعتها جانبا بعد إعادة النظر فيها، ذلك أن المقالات التي نكتبها للصحافة – يوميا أو أسبوعيا أو حتى شهريا – مرتبطة باللحظة التي نعيشها، فأحيانا يفرض السياسي نفسه، وأحيانا الثقافي بأنواعه. فقد كتبت عن بعض أسفاري وما أزال أطمح إلى كتابة المزيد، فما رأيته وتعلمته من السفر لا يقل أهمية عما علمتنيه الكتب، واحتكاكي بأدباء وكتاب وفنانين ونقاد، ما تعلمته له وزن لا يقاس بالميزان العادي الذي نقيس به معطيات الحياة الدنيا. كل لحظة من حياتي عشتها دوما بحماس، بما في ذلك لحظات الحزن والفقدان والانكسار والدهشة والنجاح والفرح. كل لحظة أعيشها ثمينة وقد عرفت ذلك لأني عشت تجارب الموت المفاجئ مع أحبة لم ينهوا مشاريعهم وسرقهم الموت.
نعم هناك مشاريع تسكن رأسي، ولأن لا أحد آمن بها كما أؤمن بها أنا، فإني أعمل بكل اجتهادي وقوتي لأوفر لها ذات يوم تمويلا خاصا لتحقيقها، من بين مشاريعي هذه، مشروع ورشة لصياغة «ألف ليلة وليلة» للأطفال بشكل مبسّط وجذاب يناسبهم ويناسب النّاشئة.
هذا المشروع راودني مع صديقة فكرنا بتجسيده كمدينة للأطفال على شاكلة «ديزني لاند»، ولكن هل يكفي أن أحلم مع صديقة تتقاسم معي الهواجس نفسها لتتحقق الفكرة العظيمة كما نحلم بها؟ يخمد الحلم ويعود وكأنّه ينام ويستيقظ في دورة تذكيرية لا تنتهي، بل تزداد بريقا كلما نهضت ووقفت أمامي ببهاء لم أره إلا في أزقة مدينة ديزني لاند.
لقد عرفت دوما سحر الأدب وإمكانية تحقيقه على أرضية الواقع يوم اقتنت لي أمي فستانا يشبه فساتين ساندريلا، يومها عرفت أن كل شيء ممكن، ولا شيء مستحيل أمام أحلامنا، غير مهمة إيقاف الموت أو تأجيله. آمنت بقوة الأدب لتغذية الحياة حتى لا تكون رتيبة ومملة، كما آمن به من مضوا خلف أحلامهم حتى تحققت.
وحتى لا أذهب بعيدا، فكل مقالاتي في «القدس العربي» صنفتها إلى ثلاث مجموعات، وقد ترى النور سواء على المدى القريب أو البعيد، فالأمر مرتبط بانشغالاتي وانغماسي في مشاريع إعلامية مختلفة. وهذا ما أراه صائبا ليس فقط بالنسبة لما أكتبه، بل لما تجود به أقلام كتاب أدمن على قراءتهم ومتابعتهم بدون هوادة، كل حسب منبره.
وفكرة المتابعة الأسبوعية هذه نابعة من خلفيتي الثقافية منذ كنت صبية، ورؤيتي الخاصة التي تكونت في ما بعد للراهن الثقافي الذي أعيشه وأعايشه، وأعتقد أن رواسب الفكرة وتمسكي بالإستمرار فيها تعود إلى ما رواه لي بعض أساتذتي عن الأقلام العربية التي كتبت المقالة باكرا، وأسست لقاعدة ثقافية في العالم العربي منذ أواخر القرن التاسع عشر، ثم تطورت في القرن العشرين لتشارك في إرساء أسس إصلاحية توعوية، وكان بالإمكان أن تنتصر للإنسان العربي لو أنها ظلّت مستقلة، ولم يطوقها «المال» السياسي الذي نصّب لها مشانق من كل لون وقضى على أكثرها.
ولعلي افتتنت بمعارك طه حسين وعباس العقاد الأدبية، والحراك الثقافي الذي صنعاه في مصر ومنه للعالم العربي آنذاك مع من دخلوا في سجالات مماثلة ومثمرة في آن، طبعت النهوض الفكري لمصر ما منح القاهرة سمعة مشرقة آنذاك كرائدة في مجال الثقافة والفنون كلها، ومنها إلى عواصم عربية أخرى تربّعت فيها الأفكار والأقلام والصحائف على عروشها.
هي تلك الأيام بالذات، التي قرأت عنها وتأثرت بها وتمنيت أن أعيش مثلها، أيام كان دعاة التجديد يثابرون على زعزعة الألواح الثابتة للمحافظين بمقالاتهم، وكان لا يمكن لمقالة أن تمر بسلام بدون أن يُردّ عليها، سواء تعلقت بالشعر أو القصة أو بالمنظور الفكري العام للواقع السياسي والاجتماعي.
تخيلت على مدى سنوات، خاصة تلك التي عشت فيها في القاهرة كيف يبدأ اليوم المصري آنذاك بـ»كَتَبَ طه حسين» ولا ينتهي إلا وعشرات الردود تُسِيلُ حبر الأقلام الممتلئة بالحياة. قصص لا يكفي كِتابٌ ضخم لجمعها، ولا مسلسل طويل لسردها بحذافيرها التاريخية الجميلة التي دُفِنت مع السأم السياسي ورُدِمت بخيبات الثورة وانتكاسات مشتركة، قادها انقلابيون جاءوا من بؤر الجهل والفقر، افتقروا للتقاليد الثقافية، رغم تحركهم «البريء» لتصحيح أخطاء الملكية والقضاء على الجائعين الذين ظلمتهم الطبقة الإرستقراطية في مصر.
اليوم حين تطفو تلك الذكرى على سطح أفكاري، أتمنى لو عشت يوما واحدا في تلك الأجواء، فقد تغيّر الحال وأصبح «الكتاب التويتريون» يشغلون العالم أكثر من كتاب المنابر الأسبوعية الأنيقة.
أقسم بالله أني التقيت سيدة صافحتني بحرارة وهي تقدم نفسها على أنها كاتبة، وحين سألتها أين تكتب أجابتني بفائض من الثقة «على تويتر» وبدون أن تضيّع وقتها الثمين، فتحت هاتفها على صفحتها تويتر وطلبت مني أن أتابعها، لأن ما تكتبه لم يكتبه أحد لا قبلها ولا بعدها، شيء خارق كتلك الجملة التي علقت بذهني «أشرب قهوتي وأنت السكر، وأستقبل الصباح» انتهى! أمّا دهشتي فقد دامت ستين ثانية لم أجد فيها اللغة، وقفت فيها وكأني في دقيقة صمت ترحما على الموتى، أتأمل «الكاتبة التويترية» وهي تقرأ عليّ إبداعها الصباحي، قبل أن تعتذر مني لتكتب جملة جديدة خطرت على بالها في تلك اللحظة المباركة، تركتني وانزوت مع نفسها تسجل ما ألهمها به الموقف، وقد اختلطت عليّ مشاعري هل أحسدها على ما هي فيه من « نعيم»؟ أم أحزن على حالي أنا المبعثرة بين زمن طه حسين والعقاد والجابري وجورج طرابيشي وزمن إغلاق الصحف ومحاكمة الكتاب بسبب كلمة حق، وبين زمني الخاص، الذي أعيش فيه طقوس مقالتي الأسبوعية التي أنحتها نحتا على مدى يومين أو ثلاثة أيام، وكلما كتبتها على عجل بسبب أسفاري وبرنامج عملي المكتظ انتابني وخز ضمير يدوم أياما وليالي.
شاعرة وإعلامية من البحرين

التزام أسبوعي

بروين حبيب

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الدكتورجمال البدري:

    سيدتي الأصيلة والمعاصرة معًا الدكتورة بروين حبيب :
    أولًا : كنت في وعكة صحية متعبة ؛ ورغم ذلك حالما قرأت مقالك الأثيرعلى نفسي ذهب البأس ورحل اليأس وثبت اليقين كشراب قراح في الكأس : ما أطيبه ؟ فلكِ الأجر.ومن خلال مقالك أبوح القول إنني تواصلت اليوم مع مجموعة إعلامية ( دولية ) تبحث عن سيدة عربية تزّكى بموضوعية لتكون من بين أفضل مائة سيدة في الشرق الأوسط حضورًا ثقافيًا للعام 2018.وتمّ اختياري لهذه التزكية من دون علمي المسبق.ومن دون تردد أيضّا كان جوابي ( ليس هناك أكثراستحقاقًا من رئيسة تحريرجريدة القدس العربيّ السّيدة سناء العالول ؛ فهي صاحبة الفضل على عشرات الأقلام يوميًا لتنشرالمحبة والتفاعل بين الناس في المنطقة العربية بالكلمة المسؤولة والفكرة الجامعة بعيدًا عن الكراهية). وحينما سألونا : وما هي درجة القرابة بينكما ؟ كان جوابي : إنها أختي في الكلمة والإنسانية وكفى.أعجبوا بجوابي.
    ثانيًا : أنت كذلك شقيقتي في الكلمة والإنسانية ؛ من هنا أسمح لنفسي استمرارالتعليق.نعم عصرطه حسين والعقاد والزيات رائع ؛ وشخصيًا لا أزال أحتفظ بالكثيرمن مؤلفات أولئك العظماء ؛ قرأتها جميعًا وأعود إليها أحيانًا.فهي مثل لوحة الموناليزا لا تنتهي إبتسامتها الدافنشية.إنما لكلّ عصرنساؤه ورجاله…وحضرتك اليوم من نساء هذا العصرالمتمييزات.ورغم أنني لم ألتقِ بك مباشرة لكنني أعرفك عن كثب.فلماذا أعرفك أكثرمن غيرك ؟ لأنك تحملين أصالة صادقة ومعاصرة خلاقة.من هنا فإنّ سعيك لتحقيق مشاريعك سيكون مضمون النجاح.وسنقف مع حضرتك ؛ فلديّ فراسة أنك ناجحة جدًّا؛ فلا أغامرالوقوف إلا مع الناجحين.لأنّ النجاح والفشل عدوى.فتوكلي على الله ذي الفضل والجدوى.
    والتزامك الأسبوعي هنا وهناك ؛ لهوتعبيرعن الوفاء المغروس في شخصيتك ( الحلوة ).

  2. يقول سامح //الأردن:

    *أولا ؛ حمدالله على سلامة أخونا العزيز
    د.جمال البدري.
    *ثانيا؛ كل التوفيق للأخت الكاتبة في تحقيق
    مشاريعها وخاصة المشروع الخاص (بالأطفال).
    سلام

  3. يقول عبدالله الساورة:

    أعرفك تقرئي الردود ومن يتابعك في صحيفة القدس العربي…من خلال مقالك الأسبوعي فكلما كان الاعداد الجيد يكون أكثر متعة.. وفي بداية كل أسبوع أحرص على قراءة مقالاتك أولا للأفكار الجميلة التي تأتين بها وسلاسة الأسلوب والعمق الفكري. وشغفك الكبير بالسينما وبالصورة وهو القاسم المشترك التي أتشارك معك فيه…في كل أسبوع جزءا من حياة كاتبة عربية وكيف تتعامل مع وضعيات مختلفة وكيف تتحسر على أزمنة القراءة… واصلي مقالك/ عمودك الأسبوعي بشغف وبحب ونحن ننتظر اطلالة كل اسبوع نجمة تضيء اسمها بروين حبيب.
    كل الشكر والتقدير على ما تقدمينه كل أسبوع
    عبدالله الساورة/ ناقد سينمائي من المغرب

إشترك في قائمتنا البريدية