لم تعترض «حزب الله» أيّ صعوبة تُذكر لجهة التحكّم المتزايد بمفاصل «التسوية» التي أوصلت العماد ميشال عون إلى سدّة الرئاسة بعد عامين ونصف من الفراغ، جراء تعطيل عون و»حزب الله» جلسات الإنتخاب في المجلس النيابي.
لم يتمكّن عون، بدوره، بعد انتخابه من لعب أيّ دور لاجم لتنامي الأعمال التحريضية والعدائية لـ»حزب الله»، حليفه، ضدّ المملكة العربية السعودية. وماشت الخارجية اللبنانية الحزب على أكمل وجه، وخلق هذا شعوراً متزايداً بأنّ «التسوية الرئاسية» قد استطاع «حزب الله» أن يجعلها متراساً يحتمي به، ويلقي بسهامه من ورائه. ازداد المتراس مع ذلك تخلّعاً ووهناً، ليس فقط كلّما غالى الحزب في استخدامه، مقروناً باستفحال التوازن في الإقليم لمصلحة إيران وحلفائها. أيضاً، لأنّ رئيس الجمهورية اصطنع من خلاله «الحيادية المنحازة». يسأله الجانب السعوديّ عن موقفه، فيتظاهر بالحياد بين طرفين لبنانيين، أحدهما يزاول التدخل الثوريّ في شؤون بلدان عربية أخرى، وآخر يرفض ذلك. أي حياد يحيّد نفسه عن تدخل «حزب الله» خارج الحدود، وصولاً حتى البحرين واليمن، ويرجىء القول فيه، ويتحجج بانقسام الناس حول ذلك إلى رأيين، في حين يشارك «حزب الله» في الحكومة، ويتفاضل على الآخرين بزهده في المحاصصة الإدارية في نفس الوقت. أيضاً رئيس الحكومة، فهو يحتمي بحمايته لـ»تسوية غشوم» من «فتنة تدوم». يسوّغها بعدم توفّر الإرادة الدولية بعد لطرق باب «سلاح حزب الله». أيضاً، حزب «القوات اللبنانية»، الذي أمّن بسحب ترشيح سمير جعجع لصالح ميشال عون الطريق الأخير نحو الرئاسة. كان يقول هو الآخر أنّها تسوية هشّة وضعيفة، لكنه يحتمي وراء المصالحة المسيحية لتسويغ استمرارها، ويحتمي وراء التسوية لصون المصالحة المسيحية.
بالنتيجة، كل حجج الإستمرار في التسوية بدت ضعيفة ومردودة، إلا واحدة: تفادي توسّع الحريق الإقليمي إلى لبنان، الذي يستقبل عدداً كبيراً من اللاجئين السوريين، الأمر الذي يجعل من استقراره، أيّاً كان ثمن الإستقرار مصلحة حيوية، ديموغرافية وأمنية، لبلدان أوروبا، والخشية من أن يؤدي انفجار من هذا النوع إلى نتائج عكسية، بالنسبة إلى أخصام «حزب الله» في الداخل.
لم تجد إيران مشكلة في استمرار هكذا تسوية. بالعكس، فهي في صالحها، وموجهة من قبل حليفها اللبناني، «حزب الله» بالشكل الأكثر من مريح لها. لكن الجانب الإيراني لم يترك مناسبة للإيضاح بأنها ليست فقط تسوية «بين غالب ومغلوب»، بل هي بين «غالب وبين مغلوب على أمره»، وفي ذلك فرق شاسع. ليست فقط تسوية غير متكافئة، بل تسوية يتخذ فيها من أخصام إيران في الداخل اللبناني رهائن ومنصة، ضد أخصام إيران في الجوار العربي.
السعودية؟ هناك معطى لم يستوعبه اللبنانيون بعد، وربما لم يستوعبه أكثر العرب. معطى، بل كل شعور عميق لدى السعوديين، بأنّهم على امتداد المنطقة العربية ليس لديهم ما لإيران من حلفاء. وجهان للمفارقة هنا. الأوّل: أنّ السعوديين يتعاملون مع الحوثيين في اليمن، أو «حزب الله» في لبنان، أو مع شيعة العراق بشكل عام، ومع أحزاب شيعة العراق بالتعاقب، كما لو أنّهم مجرّد بيادق تحرّكها إيران، أو أقليّات أجنبية، وهذا قصور عن فهم الديناميات الخاصة بحركات الشيعة العرب، الأكثر راديكالية من النظام الإيرانيّ، لأنّ النظام الإيراني يتعامل مع الأنظمة العربية المناوئة له كإمتداد لنموذج نظام الشاه في إيران، الذي كان هو أيضاً نظاماً شيعياً على طريقته، بل نظام لعب دوراً أساسياً في مواكبة ظهور الإسلام السياسي الشيعي في العراق ولبنان والخليج. أما الشيعة العرب، الذين لم يوسعوا مدارك الثورة الإسلامية الإيرانية في أيامها، بل دشّنت لحظة «صحوتهم الكبرى» مع التدخل الأنكلو- أمريكيّ لاسقاط صدام حسين في العراق، فلا ينظرون إلى هذه الأنظمة العربية كما لو أنها مجرّد محاكاة لنظام الشاه. بل نظروا وينظرون لنظام الشاه، ومن بعده لنظام خميني، كحليف لهم لكسر معادلة «التغلّب السنّي» في المشرق العربيّ، ومقارعته ليس من موقع تحشيد الأٌقليات ضد الأكثرية السنية، بل من موقع الكفاح لتغيير معطى الأكثرية نفسه، وهو ما لم يتحقق إلى الآن، لكن ما تحقق منه ليس قليلاً: فأكبر بلدين بين عرب آسيا، من حيث عدد السكان، العراق واليمن، قد بلغ فيهما اليوم التغلّب المذهبي مبلغاً يصعب جدياً ادارة عقارب الساعة للعودة إلى ما وراءه، سواء عنينا التغلّب الشيعي الإمامي (الذي يتفاوت النفوذ الإيراني بين جماعاته) في حال العراق، التي قامت دولته الحديثة على الغلبة العربية السنية، أو التغلّب الشيعيّ الزيديّ المهدويّ، الواقع تحت النفوذ الإيراني، والمتشرّب أكثر فأكثر للنموذج الرسمي «الثوريّ» للتشيّع الإيراني، والذي بخلاف تاريخ العراق، يحاكي ما كان اليمن عليه قبل اسقاط حلفاء جمال عبد الناصر لنظام الإمامة، وخوض السعودية حينذاك الحرب من أجل اعادتها في الستينيات، بعد أن خاضت الحرب من أجل تقليص رقعتها في الثلاثينيات.. واليوم تخوض الحرب ضدّ عودتها، كإمامة زيدية مهدوية، مؤيدة بإيران، وبمعادلة ديموغرافية تجعل من اليمنيين أكثرية سكان شبه الجزيرة العربية.. وهذا كلّه مسار مليء بمفارقات التاريخ.
لفهم السياسة السعودية اليوم حيال لبنان أو حيال أي بلد آخر، يقتضى الجمع إذا بين معطيين: فهي سياسة لم تعد تقبل الاستثمار في تسوية لبنانية داخلية يتلطى وراءها «حزب الله» للإغارة عليها، لكنها في الوقت نفسه سياسة تجذّر قناعة سعودية متعاظمة، بأنّه ليس للسعودية ما لإيران من حلفاء حقيقيين في البلدان الأخرى، هذا في الوقت نفسه الذي ترفض فيه السعودية الإقرار بكون الحوثيين و»حزب الله» وشيعة العراق بشكل عام «حلفاء» للإيرانيين، وتصرّ على أنّهم مجرّد تبّع للجمهورية الإسلامية تحرّك بإشارة من المرشد، كما لو كان صاحبنا شيخ الجبل، وهذا اختزال خطير، نظرياً وعملياً.
بقي أنّ ما ينتج عن هذا الاختزال الخطير له أيضاً تداعيات قد لا تكون بالحسبان، بما في ذلك بالنسبة لإيران. بدلاً من أن تجد السعودية مصلحتها في تكتيل أخصام إيران في كل بلد مشرقي، وعلى امتداد المنطقة، تجد أن مصلحتها في إعمال الفرز بينها، بين الثوريّ في عدائه لإيران وبين الإصلاحيّ تجاهها، ويوهم الأوّل نفسه بأنّه صار بدل الثاني حليفاً، غافلاً من أنّ الإصلاحيّ الذي يريد الإنقلاب عليه، إن لم يكن بمقدوره، كرجل أعمال، مثل سعد الحريري، أن يكون أبا ذر الغفاري أو ارنستو تشي غيفارا، فكذلك المملكة، أزمة اختتام «عهد الأخوة» من أبناء عبد العزيز، وحركة انتقال العرش لمرحلة ما بعدها، لن تجعلها «باسدرانية» في مقابل «الباسدران»، لأنّ لذلك أيضاً تبعات غير مقدّرة في الوقت الحالي. في الأساس، ما تقوله السعودية اليوم، أنّها تريد أن تدير معركتها لوحدها.
٭ كاتب لبناني
وسام سعادة
على نفسها جنت براقش
يتطرق الكاتب الى صراعات الشرق الأوسط في سياق القرن السابع او الثامن الميلادي حيث الصراع بين بني هاشم و بني امية هو العنصر الأساسي الذي يشكل الاحداث السياسية بالمنطقة و حيث لا وجود لشيئ اسمه أمريكا او إسرائيل و لا تاثير للنفود الخارجي على مواقف و سياسات الأطراف الاقليمية المتصارعة.
تحليل تطورات الاحداث الحالية باختزالها في الصراع بين السعودية و ايران هو تحليل مضلل في احسن الأحوال لا يساعد على فهم مغزى و مسار تطور الاحداث الحالية.
صراع السعودية مع ايران هو جزء من الصراع بين أمريكا و القوى التي مكنت ايران من الخروج من دائرة النفوذ الأمريكي بعد سقوط نظام الشاه ، و هذه القوى ليست محصورة في النظام الجديد الذي عوض نظام الشاه، بل تضم كل الأطراف التي لها مصلحة في عدم سيطرة أمريكا و الغرب على ايران، و هي الا تحاد السوفييتي قبل 1989 و روسيا و الصين حاليا.
و لان طبيعة العلاقة بين أمريكا وحلفائها او اتباعها في المنطقة تختلف كليا عن طبيعة العلاقة بين ايران وحلفائها فقد انعكس ذلك بشكل جلي على أداء و كفاءة ايران و السعودية في التعامل مع قضايا و صراعات المنطقة، ففي الوقت الذي اخذت ايران المبادرة عبر الاستفادة الى اقصى قدر ممكن من أخطاء أمريكا في المنطقة معتمدة على تحالفات قوية على مستوى الإقليم، و الدعم السياسي و الاقتصادي و العسكري ان لزم الامر لحلفائها الدوليين، انشغل اتباع أمريكا و خصوصا السعودية بمواجهة تداعيات فشل سياسات الإدارات الامريكية المتعاقبة دون ان يكون لها أي دور في توجيه هذه السياسات بما يخدم مصالحها.
فبالنهاية لا يمكن الحديث عن سياسة سعودية اتجاه لبنان او اليمن او العراق او سوريا، بل الامر يتعلق بدور معين مطلوب من السعودية أداؤه في اطار سياسة أمريكية معينة و يختلف هذا الدور باختلاف سياسات الإدارات الامريكية المتعاقبة، بينما نجحت ايران في قيادة حلفائها الى الاستفادة من الفشل المتواصل لامريكا و البناء على هذا النجاح لتقوية أسس تحالفاتها الإقليمية.
في لبنان يمسك «حزب الله» بقرار الحكم، مستفيداً من فائض قوة لافتة وانكفاء سياسي أمامه، ما مكّنه من فرض إملاءاته على كل المستويات، مستنداً لترسانة صاروخية تُعدُّ أبرز أدوات مدِّ السيطرة الإيرانية، ومستنداً إلى «تسوية»، أفضت لإمساكه وحيداً بقرار البلد، «كاف أن نتذكر كيف فرض (حزب الله) إنهاء حرب الجرود، وكيف أنجز اتفاقات مهينة مع الإرهابيين»، مقابل فوز بعض شركاء «التسوية» ببعض كراسي الحكم غير المؤثرة وحصص من المغانم.
السعودية ليس لها حلفاء فهي تخذلهم دائما. الايرانيون والروس لا يفعلون ذلك.