كان شعار الحرب العالمية «لا بدّ من الحرب التي تنهي كلّ الحروب» ومن أوجه التسويغ أيضا عبء الرجل الأبيض ومهمّة نشر الحضارة. واليوم أصبح الشعار يتمثّل فيما يدعى «الحرب على الإرهاب» لتمرّ المنطقة العربية من الاستعمار إلى التبعية إلى الاحتواء، وفق أشكال مختلفة انكشف فيها زيف القيم الديمقراطية التي يدّعيها الغرب نفسه المتّخم بالعقلانية وهو نفسه الذي أنتج حربين عالميتين وكرّس الفاشية والنازية.
إنّه زمن النّفاق الذي بدأه بوش في ادّعائه بأنّه سيقاتل لأجل نصرة الخير مقابل الشر،ّ وأنّ أمريكا ستنشر القيم الديمقراطية في العراق وفي كلّ أنحاء العالم، فهي الامبراطورية الأهم في التاريخ، حسب أقوال منظّري أمركة العالم، وهي المفردة التي أعادها دونالد ترامب إلى الأذهان هاته الأيام، معتبرا أنها البديل للعولمة، أمركة العالم وليس عولمة العالم، وكيف لا؟ ومثلها تبني ولا تهدم، وهي تمنح الحضارة والسلام والتقدم والسعادة للشعوب، أو لم تحقّق ذلك في العراق؟ ناكر للجميل من يقول عكس ذلك! والحقيقة أن أمريكا جلبت للمنطقة الفقر والتدمير والتجهيل والتجويع.. وهي جرأة امتلكها المحافظون الجدد واستغلّوا غياب التوازن الدولي في العشرية الأخيرة ليفسدوا في الأرض وفق حماسة إمبريالية لا مثيل لها بحثا عن المصالح والمطامح والمطامع اللامحدودة، وبالطّبع وجد هؤلاء أرضية مواتية للانقسام والتشتّت المذهبي والطائفي في المنطقة العربية، زادوه تأجيجا وتفرقة وتشرذما، وعمّقوا بؤس الحال وفشل الطبقة المثقفة التي جعلوا جزءا لا يستهان بها وكلاء وحوّلوهم إلى أقلام مأجورة تدفع باتّجاه مصالح الغرب الاستعماري وتنفّذ الأجندات. وهكذا تمّ تعطيل قدرات الناس التحليلية وخدّرت الجماهير وعملت النخب الحاكمة على تصحير ثقافة الشعوب وتصدير أفق اهتمامها نحو المتاهات وتغييبها عن مكاشفة قضاياها الحقيقية.
نتساءل حينئذ عن دور المثقّف الحقيقي في القضايا الراهنة، وهو الذي يُنتظر منه مقدار من الاستنطاق لا حدّ له، ومن الاستكشاف والتحدّي، وغرس بذرة عدم الاكتفاء من المساءلة الدائمة تغييبا لمعطى التسليم ولموثوقية المسلّمات. وهكذا يتبلور وعي الفرد وهو الأصل الثابت في كل الجهد الانساني، إذ لا يمكن أن يحدث الوعي الانساني على مستوى جمعي إلّا بعد أن يتبلور على المستوى الفردي، خاصة عندما تشتغل إرادة الهيمنة في عصرنا وفق منهج جرى فيه قصف وعي الفرد وتتالت محاولات تدميره تماما، من خلال كمّيات هائلة من المعلومات التي تهدف أساسا إلى توليد نوع من القبول وتغييب المساءلة وخلق سلبية جمعية تعمّقها استراتيجية إلالهاء التي تشتغل في اتجاهات متعدّدة.
هذا هو معنى اقتصاد السوق الجديد الذي سوقته العولمة على العالم خفية، عملا في التضييق على الاقتصادات الوطنية تحت مظّلة الاقراض والوصول إلى إحكام السيطرة على اقتصاد الدول ومصادرة قرارها السياسي والاقتصادي لحساب الشركات عابرة القوميات التي يحُول إليها الأمر في النهاية فتسيطر على التفاعلات الاقتصادية والتدفقات المالية العالمية وتُخضع الجميع لأجنداتها التي تُخفي بدورها مآرب سياسية تعمل على تعميق تبعية الدول الفقيرة للدول الغنية، وتعزيز هيمنة الدول ذات الاقتصاد المتفوق غير تاركة سوى حيّز صغير للتحدّي الفردي والمساءلة.
ضمن هذا الإطار يتمظهر دور المثقّف في أن يعارض الجماعات القوية، سواء كانت حكومات أو مؤسسات تسبّبت في دمار شامل بحثا عن إمكانيات جني الأرباح غير عابئة بما أنتجته من أزمات اقتصادية متلاحقة، ولكن هذه المعارضة يجب أن تبتعد عن السلبية والتكرار وتتخلّص من الأفكار المدرسية والقواعد القديمة، هي تحتاج إلى التمحيص والحكم والانتقاد والمساءلة الجادة في مجتمع يمتلك اهتمامات سلعية ويسعى وراء أهداف تجارية مربحة.
لطفي العبيدي