باريس- القدس العربي : يذهب الفنان التشكيلي أسعد عرابي في أعمال معرضه الأخير في باريس إلى الموضوع السوري، إذ يعالج، تحت عنوان «الساكن والمسكون»، موضوع «البيوتات السورية التي دمرت على أصحابها»، وكما يشي العنوان، فإن أبطال لوحاته هم الساكن الذي قُتل، والحصن الذي سقط فوقه، فأصبح كل منهما شهيداً. والبيت، على ما يقول الفنان لـ «القدس العربي»، «لا تسكنه عائلة واحدة بل أجيال، وبالتالي فإن للذاكرة أيضاً نصيبها من القتل». يؤكد عرابي «أننا تأخرنا حتى فهمنا أننا مقبلون على مأساة. قبل أشهر فقط من آذار 2011 كنت في دمشق، أحسست أن الجو غير طبيعي، شعرت بالفوضى. كان لي ركن في دمشق أسميه الجنة، كان من المستحيل أن يخطر ببالي أنني كنت أمرّ بين كل هؤلاء القتلة في الطريق، أولئك المجرمون الذين ظهروا في لوحاتي وتمثّلوا بالغراب كي لا يلوّثوا اللوحة».
لا يرى عرابي أن التدمير الذي نراه اليوم هو وليد الصدفة، فقد بدأ «منذ ستينيات القرن الماضي، حين بدأ تدمير النسيج الدمشقي عدة مرات فقضى على أكثر من ثلث المدينة ما بين حيي العيبة وسوق ساروجة، ثم استمر التدمير بشكل خجول ومبطن، وذلك بتغيير وظائف الأوابد التاريخية الثقافية عن طريق تحويلها إلى مواقع سياسية أو سكنية همجية، وعدم منع الشاحنات من التوغل في أزقة رهيفة، ناهيك عن التلوث والضجيج. ألا ترى معي أن ما جرى بخصوص مصائر المدن السورية هو استمرار لنفس العبث غير البريء الذي يعيد مقولة ابن خلدون مرة ثانية، أن المدينة تتحول من فاضلة، وفق الفارابي، إلى فاسدة، لأن أول ما يفسد فيها هو العمران».
الحرب بنظر الفنان كانت قد بدأت من قبل، وهو رأى دائماً نذرها المبكرة «من مؤشرات الحرب التخلف الفني، تخلف الموسيقى والتصوير. واحدة من وزيرات الثقافة افتتحت ذات مرة معرضاً تشكيلياً بنظارات سوداء. هذا من مؤشرات الحرب. كيف صارت هذه وزيرة من الأساس؟».
يعتبر عرابي أن «المبدعين والمفكرين الذي غادروا البلد هم البنية التحتية الحقيقية». لا يتحدث في السياسة بشكل مباشر، وإن كان يؤكد أن «الفنان لا يستطيع أن يكون على الحياد»، يقول «كل من شارك بقتل الشعب السوري هو مجرم. على الأقل هناك طرفان. من جاء بمقاتلين من باكستان أو أفغانستان ماذا يمكن أن تسميه! وأساساً من اعتبر نفسه معارضاً لماذا دخل أصلاً إلى حلب. أنت بذلك تعطي مبرراً لقصف الطائرات، وإن كان هذا لا يمكن تبريره».
وعند سؤاله عمّا فعلت الحرب بلوحته استشهد عرابي بما كتبه الشاعر اللبناني عيسى مخلوف في تقديمه للمعرض «لاحظ مخلوف برهافته الشعرية أن العنف مجبول بصيغ الأداء الفني في المعرض. بمعنى أوضح أن سلوك الفرشاة مأزوم، والعلاقات اللونية متناحرة، وبالتالي فإن الكمون الدرامي شديد الوطأة».
أما كيف تكون الحرب قاتمة ودموية إلى هذا الحد، فيما اللوحة مرسومة بألوان زاهية كألوان عرابي فيقول الفنان «أشير إلى توازن نسبي، اللوحات ليس مجرد شاهد على ما يجري من حروب، اللوحة عندي انعكاس للحياة. مهما كان الوضع مريراً تبقى الحياة هي الأساس. هذا التناغم بين اللون والخط يشكل غريزة في اللوحة، مهما كان الموضوع شاهد حداد أو مأتم أو حزن. الفنان المريض مثل فان غوخ يجب أن يذهب إلى مشفى كي يتداوى. المشاهد يطلب من اللوحة نوعاً من الشفائية، أو الطوبائية المسالمة. وصية ماتيس تؤثر بي: كثير من الهموم تنغص علينا حياتنا فلا تحتاج اللوحة لأن تزيدنا غماً، ناهيك أن هناك فرحاً مبتذلاً عاهراً، وهناك غبطة ذوقية رهيفة تبعث على الاطمئنان وهو البديل عن الحرب. إذاً اللوحة شاهد على المأساة وبديل عنها».
كذلك من اللافت في معرض عرابي أنه يحرص على إعطاء عناوين للوحات، «رؤوس الأطفال»، «النزوح بدون أزواج»، «أليس في بلاد المنفى»، «الساكن خارج السكن»، «الرحلة الحزينة»، «اغتصاب على طريق المنفى»، «ثانية واحدة قبل القصف»، «القصف الأعمى»، المدينة المهجورة».. وهو يفسر ذلك بالقول «أنا أعتني بالعنوان.
اللوحة مشروع فكري، حتى لو كانت عبثية. لا أحب إطلاق أرقام على اللوحة. العنوان يصبح تالياً جزءاً من ذاكرة المتلقي».
ولدى سؤاله عن مدى مواكبة الفن التشكيلي السوري للثورة التي اندلعت في البلاد قال عرابي «الحرب كانت امتحاناً لتقدّم الفن التشكيلي في سوريا. هناك بعض الفنانين شهادتهم عن الوضع فيها أصالة. أحدهم ياسر صافي. إذا تأملنا شغله الآن نرى النكبة السورية، تلك التي كانت إيجابيتها الوحيدة إنجابها لهكذا أساليب. صافي طفرة استثنائية بتاريخ الحرب، موضوعات الحرب التي جسّدها خلقت له أسلوباً نستطيع تسميته بأسلوب ما بعد الحرب».
ويضيف عرابي «الفنان الثاني هو وليد المصري، الفنان الذي يصنع من أكفان الأطفال شرنقات حرير. أليست هذه عبقرية؟ وهل كان يمكن أن يخطر ذلك على البال لولا الحرب!». لكن الفنان لا يقتصر على الفنانين من جيل الشباب، فهو يتطرق إلى مثال آخر من كبار المكرسين على خارطة التشكيل السوري «انظر شغل يوسف عبدلكي، كان أهم فنان في آرت باريس 2017. كان مدهشاً، أعجبتني جداً مشاهده المستقاة من الحرب».
واستطرد عرابي متحدثاً عن الفنان عبدلكي «يوسف ابتداءً من اللوحات العارية التي رسمها في دمشق ارتفع مستواه كثيراً. فماذا يهمني من الرأي السياسي؟ تلك اللوحات العارية أهم ما عمله يوسف في حياته. أنا أتحدث عن شرعيته الفنية لا السياسية. يوسف موهوب جداً وظلم جداً حين عاملناه كمناضل سياسي».
وهنا يقارن الفنان أداء الفن والفنانين التشكيليين بنظرائهم في اختصاصات إبداعية أخرى، فعلى مستوى الأدب «ليس هناك أديب بمستوى فاتح المدرس مثلاً. وبالنسبة للموسيقى كان هناك مواهب مهمة مثل السراج، لكن قضي عليها في مهدها.
الأدب كان مسيطراً عليه لأنه مسيس ومشترى. لم ينج إلا زكريا تامر ومحمد الماغوط». ويختم عرابي، الذي يستمر معرضه هذه الأيام في غاليري موازان في باريس، بالقول
«كانت فكرتي أن يقام هذا المعرض في دمشق كي يراه هناك من يعاني القصف والصواريخ، ومن ثم يتنقّل، لكن صالات العرض لم تقبل. يتذرعون بأنهم يحبون شغلي الأقدم.