في واحد من المشاهد الغريبة والمتكررة الحدوث في الإعلام المصري خرج مذيع على المشاهدين ومعه ما سماه «مطهرا صناعيا»، تعبيرا عن حاجة الإعلام للتطهير الذاتي، خاصة بعد الحديث عن استبعاد إعلامي من لقاء مع الرئيس وانتقادات الرئيس للإعلام في عدة مواقف.
تحول المصطلح الجاد المرتبط بعملية تطهير مؤسسي مركبة تخص الأسس القانونية واللوائح المنظمة وقواعد العمل المفترضة والسلوكيات الخاصة بممارسة المهنة، إلى فقرة من فقرات تقدم بوصفها خارج السياق، أو نوعا من البحث عن الشهرة أو تهميش القضايا الأساسية وطرحها بصور فكاهية غير مثيرة للضحك، قبل أن تتوارى خلف صور أخرى مماثلة، وهي تخرج على المشاهدين من بانيو الرغوة الصناعية أو الحمام الشعبي أو عالم الجن والزار.
تلك الطريقة التي تكررت بصور متعددة بعد ثورة 25 يناير، لم ترغب في التواري بالهدوء الذي أتعامل به مع تلك النوعية من التناول، خاصة أن التركيز عليها يساعدها في سرقة وقت مصر وإبعاد الكاميرا عن القضايا الحقيقية، والدخول في دوامات مستمرة من الجدل الذي لا ينتهى ولا يثمر ولا يساعد في مواجهة القضايا المصيرية التي لا تخص الحاضر والمستقبل فقط ولكن الماضي ومحاسبته من أجل ترسيخ بناء متين الأسس للمقبل.
تجاوزت عن فضيلة التجاهل تلك من أجل فكرة التطهير الواردة والاستشهاد بوزارة الداخلية – من قبل المذيع- بوصفها نموذجا ناجحا في ممارسة التطهير الذاتي. قد تكون تلك رسالة أخرى للحديث الدائر والكاميرا مركزة على عملية تطهير اليد بالمطهر الصناعي، ولكن المهم أنها تشابكت مع سؤال آخر عن التطهير، طرح واضحا في رواية الكاتب الجنوب أفريقي جون ماكسويل كوينزي (1980) المعنونة في «انتظار البرابرة».
حديث فلسفي عميق يبدأ من تساؤل داخلي لقاضي المدينة الحدودية في الرواية، بعد أن وصل إليها العميد جول من المكتب الثالث بوصفه مسؤولا عن حماية أمن الإمبراطورية. مدينة لا توجد لديها خدمات للسجناء، لعدم الحاجة إليها وعدم وجود سجناء بالمعنى الحقيقي، تبدأ في التحول تدريجيا إلى مخطط أكبر لخلق برابرة تحتاجهم الإمبراطورية لتأكيد قوتها وترهيب شعبها وتبرير هذا الترهيب، ويحتاجها المكتب الثالث ومن يمثله، لأنهم لا يجيدون عمل شيء آخر، على ما يبدو من الأحداث، غير التعذيب. قاضٍ يطالب بالسلام بأي شكل في مواجهة عميد يسعى باسم الإمبراطورية إلى إيجاد أعداء، وإن لم يجدهم يسعى بكل قوة إلى خلقهم وتحويلهم من إشاعات متناقلة إلى أجساد معذبة ومنهكة يشارك الجميع في عملية تعذيبها علنا. من اللحظة الأولى التي يحضر فيها العميد سجناء للمدينة يبدأ الجدل حول «الحقيقة» ما هي؟ وكيف يتم التعرف عليها؟ وعندما يدرك القاضي أن الحقيقة للعميد تقاس بدرجة الألم، وعندما يحمل مصباحه ليرى أثر التعذيب على السجناء (الموت والجراح)، يطرح السؤال عن عملية التطهير التي يقوم بها العميد، من أجل أن يعيش حياة طبيعية. ممارسة التعذيب بشكل مستمر تجعل الشخص – كما يرى القاضي- في حاجة إلى «تدخل كهنوتي، إلى شعائر تطهير.. شكل من أشكال تطهير الروح أيضا».
طرح حديث المطهر الصناعي ونجاح عملية التطهير في وزارة الداخلية – التي لا يتضح تعريفها بشكل محدد وسط استمرار عمليات التعذيب في السجون والاختفاء القسري وغيرها من التجاوزات القائمة، وفقا للتقارير المختلفة، سؤال أكبر حول عالم البرابرة الذي يحيط بنا، عالم نخلق فيه برابرة، وننتظر برابرة، ويصنع فيه البعض برابرة بمواصفات خاصة، من أجل غايات محددة.
تتقاطع صورة البرابرة تلك مع عالم كوينزي من جانب وعالم الشاعر الإسكندري – اليوناني قسطنطين كافافيس، الذي سبق الرواية بقصيدة بالاسم نفسه صدرت عام 1898. نعم، الكل ينتظر البرابرة، ولكن البعض يخلق البرابرة والبعض يساعد في عملية خلق البرابرة. الفارق الكبير يكمن في تعريف البرابرة بين الشاعر والكاتب. برابرة الشاعر يقدمون بمعنى أكثر قربا للحضارة، هم الآخر، لكنهم الآخر المتقدم القادر على حل المشكلات. برابرة ينتظرهم الجميع بمن فيهم الحاكم والرعية. ويتوقف مجلس الشيوخ عن العمل لأن البرابرة «سيتولون سن القوانين». صورة للمنقذ، أو للأمل الذي يؤدي لعملية انتظار جماعية تنتهي بحالة حزن عامة عندما يتم الإعلان بشكل قاطع ألا أحد قادم.
لكن برابرة كوينزي لديهم تنوع خاص تراه في تعريف مباشر تقدمه الإمبراطورية والسكان لبرابرة أقل تقدما وتحضرا، رغم أنهم أصل العديد من المناطق فيها، يعيشون على أطرافها في سلام وفقا لرؤية القاضي، ولكن عندما تحتاج الإمبراطورية إلى عدو تجد في البرابرة الهدف المنشود. الخطاب يقدم للداخل، للشعب، المكتب الثالث يتحرك مؤكدا على خطر البرابرة وعلى تكتلهم وحشدهم لشن هجمات ضد الإمبراطورية، تنسب لهم الكثير من السرقات والتجاوزات التي تتم على الحدود.
تبرز القصيدة حالة انتظار للسعادة، للبطل القادر على حل المشكلات وسن القوانين، كما تبرز حالة الاتفاق التي تجمع الحاكم والرعية في عملية الانتظار. وعلى العكس منها تبرز الرواية حالة انتظار أخرى مماثلة لخلق العدو وظروف الحرب، الحرب القائمة والمنتظرة، الإنهاك الذي ينتقل من البشر للأرض والحيوان، الخوف الذي يبدأ في النمو مثل كائن عشوائي بلا أساس من خلال إشاعات ويتحول لحقيقة يشهد الجميع على رؤيته. القصيدة انتظار في الميادين من أجل البرابرة أصحاب السلام أو الحل، والرواية غلق الأبواب والنوافذ والخوف، حالة تملق القوة العسكرية القائمة في المدينة حتى لا تترك المدينة وحدها في مواجهة شر البرابرة.
لا تظهر القصيدة البرابرة في الحقيقة، قد يكون لهم وجود أو مجرد فكرة جماعية، من أجل مواجهة أزمات تثقل الجميع. حالة هروب جماعية من لحظة مثقلة بالألم لمجهول غير معروف. لكن الرواية تظهر حالة التناقض بين من يسمى برابرة ويتعرض للسلب والنهب والتعذيب والإذلال والإهانة، ومن يعيش في الإمبراطورية ويفترض أن ينفذ القانون ويحمي الأمن، ولكنه يقوم بكل الانتهاكات. يتحول الجنود في المدينة بعد فترة إلى مصدر ملموس للمعاناة، والبرابرة لهم ظهور خافت في الأخبار المتناقلة، أما على أرض الواقع فهم أجساد معذبة، جماعات لا يعرف أحد لغتهم أحيانا فلا تفهم موقعها من معركة أمن الإمبراطورية.
يعبر القاضي، بعد أن يُتهم بالتعاون مع البرابرة ويتم حبسه وإذلاله، عن صورة السجن بدرجة شديدة القوة في تألمه من قدرة الإمبراطورية على تحويل عالمه إلى هذا الضيق. عالم من السهل أن نراه حولنا وسط دعوات متكررة بإغلاق مصر على نفسها، وإغلاق القنوات الفضائية، وخارجها تجد المساحات ضيقة في صور البانيو والكدمات الصناعية والمطهر الصناعي.
يكره القاضي أن حياته الضيقة في محبسه تضيق طموحه، وتجعل رغبته الأساسية هي عدم الشعور بالجوع. حديث منطقي إن لم يهتم بما يتم تناوله من أجل تحقيق تلك الغاية. انتقادات في الخلفية من نائب رئيس اتحاد الدواجن المصري ضد قرار وزارة التموين باستيراد هياكل الفراخ من الولايات المتحدة، الذي قدم بوصفه استجابة لدعوة الرئيس لخفض الأسعار. تشعر بأن الواقع يشهد أيضا خلق حالة أخرى من الانتظار، لا تهتم بصحة المواطن ما دامت قادرة على بناء شعبية سهلة والفوز في المعارك بطرق مختصرة.
الإمبراطورية لديها حاجة مستمرة لخلق برابرة وتغذيتهم، وإيجاد الأصوات التي تدعهم وتؤكد على رؤيتهم ومعرفة خطرهم. لا يختلف في هذا استخدام الوهم أو الحقيقة، استحضار لعبة فيديو بوصفها جزءا من حرب روسيا ضد «داعش»، أو الحديث عن أسر قائد الأسطول الأمريكي، أو الإسلامي الملثم. لا يهم تماسك الإطار ما دام هناك الكثير من التفاصيل التي تصب في هيكل فارغ لبناء برابرة يؤكدون الحاجة للقوة والبطش، ويبرورن لدى البعض تجاهل الإنسان نفسه. يرى البعض أن نبرة الخوف نتاج اقتراب ذكرى ثورة يناير، ندرك كيف أن الثورة مثل المصباح الذي حمله القاضي لرؤية المساجين. لم يغير القاضي شيئا بشكل مباشر، وتعرض هو نفسه لاتهامات خيانة الامبراطورية والوقوف في صف الأعداء، ولكنه يدرك أن هذا الضوء الذي حمله في تلك الليلة جعله شخصا آخر. الإمبراطورية تخلق ظلمتها المركبة من ظلمة الظلم وظلمة السجن، تصبح الحقيقة مقاسة بالنور وليس بحجم الألم، والنور مقاس بالرؤية النابعة من الداخل. عندما يظلم الواقع ندرك أن هناك برابرة يمكن انتظارهم من الذات من داخل الروح، حالة تخلقها ظروفها الخاصة، يراها القاضي بوصفها حالة نور تصاحب عملية تعذيب الجسد. يصبح تغيره نتاجا لنور المصباح المادي ونور الفهم والرؤية الداخلي، لكن المهم أن الأشياء لا تعود كما كانت وفي هذا بعض الأمل.
٭ كاتبة مصرية
عبير ياسين