في بلد كالمغرب، وبحكم قربه الجغرافي من أوروبا، وعوامل أخرى تاريخية وثقافية، والبعد عن المشرق العربي والتبعية الكولونيالية ، لم يكن بمكنة الدرس الأدبي، أن يحيد عن تميز كهذا، على الأقل، في القرن الماضي. فلئن كانت المناهج التقليدية، ذات النزوع الفيلولوجي والتاريخي، لم تتجذّر بشكل كبير في المجال الأدبي المغربي، مقارنة مع المشرق العربي، حيث ظل طه حسين، عتبة لم يقو على تجاوزها أي إطار منهاجي جديد، على الرُّغم من المحاولات الجادة لمحمد مندور، ومرجعيته المنهاجية الجديدة، المستندة إلى التحليل الموضوعاتي، تحت يافطة «الواقعية الاشتراكية»، فإنه في المغرب، وبعد إقامة قصيرة جدا، في مشهدنا النقدي، إذ لم يجد محمد مندور، أي صعوبة في نفي طه حسين، تمكن الباحثون المغاربة، من تسجيل ثورة منهاجية كبيرة، منذ أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات، من القرن المنصرم.
لقد استطاعت المناهج الغربية الحديثة، الدخول بقوة إلى درسنا النقدي، عبر بوابة المنهج الاجتماعي أولا، ثم البنيوية التكوينية، فالبنيوية اللسانية، والسميائيات، في الطريق نحو تقديس النص، ولا شيء غيره. ولما كانت الظاهرة الأدبية، تتكون من أربعة أقطاب، وهي، المؤلف، السياق، النص، القارئ، فإنه ليس من شك، والتاريخ شاهد، أن القارئ ظل الحلقة المنسية، في الفعالية النقدية. إلا أنه، وبكثير من الاعتراف بأهمية هذا العنصر، في لعبة الإنتاج الأدبي، ستظهر نظريات أدبية جديدة، تهتم بالتلقي، بأوروبا، منذ سبعينيات القرن الفائت، كنظرية «جمالية التلقي»، و«سوسيولوجيا التلقي»، و«نظرية التواصل»، الشيء الذي سيكون له انعكاس على مشهدنا النقدي المحلي، وسيكون له امتداد منهاجي متواتر، منذ تسعينيات القرن العشرين.
إلا أنه، على الرُّغم من أن عمر هذا المنهج، تجاوز في بلادنا، العقدين من الزمن، فإن المُلاحظ، أن نقادنا ما يزالون مشدودين إلى التحليل البنيوي، بكل تفريعاته، وروافده. في هذا المنعطف بالذات، يأتي إصدار كتاب «التلقي والتأويل – من النموذج النصي إلى النموذج التفاعلي للقراءة» من طرف الثلاثي المغربي حسن الشقر ومصطفى بوخبزة وعبد ربه، عن مطبعة أميمة في فاس سلسلة كتب فريق البحث في الأدب والنقد. والكتاب يضم بين دفتيه، ستة فصول، متناغمة ومتعاضدة مثل جداول تصب في نهر واحد. ففي الفصل الأول، وقف الباحثون عند الفلسفة التأويلية، من خلال مشروع «بول ريكور» التأويلي. فبعد تفكيك المفاهيم المؤسسة، لهذه النظرية التأويلية، تبين للكتاب الثلاثة، أنها كانت نظرية ذات مسبقات فينومينولوجية/هوسرلية بالأساس، إلا أن ريكور، سيسعى جاهدا، إلى تكوين انطولوجيا جديدة للفهم، في إطار إبستيمي، أي عبر الحوار مع الحصيلة النظرية والميثودولوجية للفكر الفلسفي.
الفصل الثاني، خصصه الدارسون للدراسات البنيوية، تلك التي فجرت خطابا نقديا جديدا، يحتفي بالعلاقة المتبادلة بين القارئ والنص، من خلال ثنائية «المتعة – اللذة»،عند رولان بارت. إن لذة النص، عند هذا البنيوي، حسب المؤلفين، لا تتحقق، إلا من خلال الزوغان، وخرق المقولة الأخلاقية «احترام الكل»، إلا أن اللذة، ها هنا، تجمع بين لذة الكتابة ولذة القراءة. ويعود بنا الفصل الثالث، إلى المعرفة الخلفية لنظرية «جمالية التلقي»، مع كل من ياوس وإيزر (مدرسة كونستانس الألمانية)، التي تأسست على حوار يقظ ورصين، مع الحصيلة النظرية للفكر الفلسفي الغربي. لتخلُصَ الدراسة إلى أن «جمالية التلقي»، كفلسفة خاصة بالقراءة منحت القارئ، وضعه الاعتباري، كقطب فاعل في العملية المُنتجة للعمل الأدبي، بشكل لم يتحقق من قبل. لكن ماذا عن المتلقي في الدرس الأدبي العربي؟
يجيبنا الفصل الرابع، عن هذا السؤال، من خلال كتاب «في الشعريةّ» لكمال أبي ديب. فالعلاقة بين الكتابة والقراءة، حسب أبي ديب، يقول الثلاثي، يستحكم فيها منطق «السنن النصي»، كمجال مليء بالفجوات والثغرات والبياضات، الشيء الذي يحوّل القراءة إلى لذة واحتفالية،عبر تنشيط مخيال القارئ، لبناء المعنى، ومن ثم النص الأدبي.
ووجبت الإشارة هنا، إلى أن أبو ديب، في «شعريته»، يركز في الأساس، على القارئ المتخصص، ذاك الذي يُخرجُ العمل الأدبي من نطاق الكمون والوجود بالقوة، إلى نطاق التحقق، والوجود بالفعل. إن فكرة التلقي، في النقد الأدبي العربي، كما جاء في هذا الكتاب، قيد العرض، فكرةٌ قديمة، ظهرت إرهاصاتها الأولى، مع ابن سلام الجمحي والجاحظ وابن طباطبا العلوي والقاضي الجرجاني، لكن كان ذلك، بكثير من التلميح، ومن دون أي تصريح مباشر. إلا أنه مع عبد القاهر الجرجاني، وهذا ما سيتناوله الفصل الخامس بالدرس والتمحيص، سيحضر المتلقي بشكل مباشر، من خلال حديث عبد القاهر عن مقولة «الذوق البلاغي»، ومن خلال تأكيده على مشاركة المتلقي في إنتاج معان جديدة للنص الأدبي. وتخلصُ دراسة هذا الفصل إلى أن مقياس الذوق عند الجرجاني، مرتبطة بالمعرفة. فالكلام لا يكون مؤثرا إلا إذا كان القارئ من أهل ذوق ومعرفة. وفي الأخير، اختتم المؤلفون مباحث هذا الكتاب، بفصل سادس، لتناول مستويات التلقي عند نقاد الشعر في المغرب، خلال مرحلة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، المرحلة التي عرفت ظهور وتأسيس القصيدة التفعيلية في بلادنا.
والملاحظ أن جمهور الشعر، تقول الدراسة، خلال هذه المرحلة، قد استقبل هذه الظاهرة الجديدة، بالرفض تارة، وبالاستحسان والقبول، تارة أخرى. ولعل أهم ما يمكن تسجيله، في هذا الإطار، ملاحظتان أساسيتان. الأولى، رفض أغلب النقاد لهذا المتن الشعري الجديد بدعوى الغموض. والثانية، اعتبارهم – أغلب النقاد – بلاغة الشعر الحر، بلاغة تخرق المألوف، وذهبت بالشعر العربي نحو التغريب والإبهام.
شاعر وكاتب مغربي
محمد الديهاجي