القاهرةـ «القدس العربي» من كمال القاضي: لا تزال قضية السينما العربية الممولة، تمثل أزمة حقيقية أمام نهضتها الفعلية بعيدا عن الشيفونية، ودعاوى التميز والكلام الكثير عن التاريخ العريق للسينما المصرية ونظيراتها في الدول الشقيقة.
لقد أجهضت الأزمات المالية كل المحاولات المبذولة والرامية إلى خلق كيان سينمائي عربي قوي، يمكنه الاستغناء عن التمويلات الأوروبية التي لا تقبل الدخول في شراكة إنتاجية إلا لأغراض لا تخفى عن ذوي الخبرة والضالعين في هذا المجال، فمن يقبل بتقديم الدعم ويُقبل على تجربة باهظة التكاليف لا يمكنه التنازل عن شرط واحد من شروط التمويل، التي يحفظها الراغبون والمتعاملون عن ظهر قلب ويتجاوزون عنها لقاء المنفعة، وبغية إتمام مشروعاتهم الإبداعية المعطلة في بلادهم.
وللإجابة عن السؤال الذي يدور في الأذهان حول شروط التمويل نقول، إن المؤسسات المانحة تشي بنفسها ولا تقبل بأنصاف الحلول، بمعنى أنها تُعلن عن مآربها السياسية بأشكال مباشرة وغير مباشرة، وربما الأفلام التي خرجت للنور وحملت شعار التمويل الأجنبي، غنية بذاتها عن أي تعريف، فنحن أمام قوانين ولوائح وأفكار ومعطيات لا تقبل الفصال ولا الجدل، حيث لا كلام في السياسة إلا في حدود المسموح به فقط، ومن ثم فلا مجال مثلا للحديث عن إشكالية التطبيع مع إسرائيل وطرح وجهة النظر المعارضة والقوية له، التي تنبع من رفض شعبي شبه كامل لهذا المشروع «الصهيو أمريكي» الطموح وهو واحد من الملفات الشائكة محل الخلاف والنزاع منذ بداية النكبة عام 1948 وإلى الآن، مرورا بما جرى من أحداث ومشكلات وحروب عززت من فكرة القطيعة، وأغلقت الأبواب أمام المبادرات الهادفة إلى المصالحة التوافقية القسرية.
غير أنه في المقابل لا يحق للفيلم الممول تمويلا خارجيا تناول القضية الفلسطينية من الجانب الموضوعي، بمعنى أن يُقَر صُناع الفيلم بحق الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة، وإقامة الدولة الحرة ذات السيادة، وتعد هذه النقطة على وجه التحديد هي المنطقة المحرمة في أي طرح سينمائي، مهما كانت صيغته، ولا تخجل جهات التمويل من انحيازها الفج للجانب الإسرائيلي في هذا الخصوص.
وكذلك تحظر المؤسسات المانحة التعرض في أي من الأفلام الممولة لمعاهدة كامب ديفيد بالسلب، فمن غير المقبول نقدها أو الطعن فيها أو عليها، ليس هذا وحسب، وإنما يدخل ضمن المحظورات أيضا مهاجمة أمريكا وسياساتها في الشرق الأوسط، باعتبارها دولة صديقة وقوية تمتلك حق الفيتو، والمواءمة السياسية معها مطلوبة لأسباب كثيرة، لكن على العكس من ذلك يتم الترحيب الكامل بنقد المجتمعات العربية ومساوئ الحكم فيها بأثر رجعي وبشكل معاصر، وتُسلط الأضواء على ديكتاتورية الحُكام بصيغ ليست بعيدة عن تأليب الشعوب ضدها وإثارة الفوضى، وهناك بالفعل نماذج عديدة من أفلام قصيرة وطويلة، حملت هذه النبرة وعملت على تنشيط حركات الاحتجاج في اتجاهات مختلفة، واستغلت حالات التوتر في البلدان العربية لخلق مزيد من الفرقة بين الفئات والطوائف والتيارات السياسية، ولم يستثن نسبيا من هذا الاتجاه غير بعض أفلام يوسف شاهين، التي كانت باكورة الانفتاح على الغرب، قبل أكثر من ربع قرن، فقد قدم المخرج شاهين مجموعة أفلام منها، «حدوتة مصرية» و«اليوم السادس» و«وداعا بونابارت»، و«المصير» و«المهاجر» و«الآخر» و«إسكندرية ـ نيويورك»، و«إسكندرية كمان وكمان» وهي ما وصفت بالغرابة من قبل الجمهور العادي، بينما رحب بها عدد من النقاد ممن كان لهم الهوى الغربي نفسه.
وبدلا من أن تنتبه المؤسسات الثقافية والحكومات العربية لهذه الخطط والمؤامرات، نفضت يدها من السينما، وألقت بكل المسؤولية على القطاع الخاص، فنتج عن هذا التخلي رسوخ التيارات السينمائية المناهضة، وتكرار التجارب الإنتاجية الممولة أمريكيا وأوروبيا، بل أدت المشاركة في المهرجانات العربية الكبرى لهذه النوعية المشبوهة من الأفلام إلى دعمها وانتشارها ووضعها على قوائم الإنتاج المتميز، بعد أن منحتها الجوائز الشهادة العالمية والدولية، بدون أدنى محاولة للتدقيق في المضمون والتعرف على ماهية وطبيعة القضايا المطروحة فيها.
لم تسع أي من الدول العربية القادرة ماليا واقتصاديا إلى تأسيس كيان سينمائي إنتاجي مشترك يجابه الكيانات الأجنبية ويعتني بصناعة سينما عربية ـ عربية تتبنى قضايا محورية وتحمي الجماهير من لغط الأفكار والنزوع الشرير إلى إحداث القلاقل وموجات الغضب، بإثارة الشكوك حول الثقافات والسياسات وأنظمة الحُكم في دول العالم الثالث، التي أصبحت مرتعا للجواسيس وحقل تجارب لفنون وإبداعات مغرضة وموجهه بقوة النفوذ، ودعم مالي محسوب بالدولار واليورو، لإنجاز المهام الصعبة طويلة الأمد لغسل الأدمغة وتفريغها من محتواها الثقافي القديم منتهي الصلاحية!