لا أتوقع أن تتفق الآراء والمواقف حول الشخصيات والنماذج التي تناولناها على مدى أسابيع مضت؛ كعينة مختارة من رموز التنوير العربي المعاصر ورواده، وهم أصحاب رؤى مستقبلية، وأفكار تقدمية، وتصورات تحديثية؛ كل منهم يحاول ولوج العصر من باب مغاير للنقل والنسخ والتلقين وحفظ المتون وشرح الهوامش والتعليق على هوامش الهوامش.. والسطور التالية لنموذجين حاولا واجتهدا.. هما:
14 ـ أحمد صدقي الدجاني (1936 ـ 2003م)؛ الدكتور أحمد صدقي الدجاني من مواليد يافا عام 1936م، وتركها إلى الشتات برفقة أسرته في عام النكبة (1948) مع زحف جحافل الغزو الصهيو غربي لفلسطين، واستقرت أسرته مع عمه باللاذقية على الساحل السوري.. ومارس مهنة التدريس صبيا؛ إبن الرابعة عشرة من العمر، وفي تلك السن المبكرة ألتزم التحدث باللغة الفصحى حتى الوفاة.
حصل الدجاني على شهادته الجامعية في التاريخ من جامعة دمشق عام 1959. وساعده نشاطه الأدبي والثقافي الملحوظ في العمل في الإعلام والإذاعة الليبية.. ونال الماجستير في الحركة السنوسية.. نموها وانتشارها في القرن التاسع عشر.. وحصل على دكتوراة التاريخ من جامعة القاهرة سنة 1969، وكانت أيضا عن ليبيا قبيل الاحتلال الإيطالي.
وهو من عائلة برزت في العمل العام والإفتاء والعلوم الشرعية، ومنهم من عمل بالتجارة. وقبل أن يبلغ سن الثلاثين وجد نفسه من بين مؤسسي منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964، تحت قيادة الزعيم الراحل أحمد الشقيري. وتم اختياره عضوا بالمؤتمر الفلسطيني التأسيسي. وتولى منصب مدير عام دائرة التنظيم الشعبي بالمنظمة عام 1966.
وفي مطلع سبعينات القرن الماضي، ساهم في إنشاء صحيفة “البلاغ” الليبية، مع علي وُرَيِّث وابراهيم الغويل. ورشحته الفصائل الفلسطينية عضواً مستقلا باللجنة التنفيذية عام 1977. وظل بها حتى عام 1984، واستقال منها في اجتماع المجلس الوطني بعمان بالأردن؛ حين اختلف مع الخط السياسي الذي انتهجته قيادة منظمة التحرير في ذلك الوقت.
ظل رئيسا للمجلس الأعلى للتربية والثقافة والعلوم بمنظمة التحرير مدة طويلة، واستمر عضوا بالمجلس الوطني والمجلس المركزي بها منذ عام 1971، وعضو الصندوق القومي منذ عام 1974، وعضو الوفد الفلسطيني للأمم المتحدة من عام 1977 إلى 1984. ومسئول الحوار العربي الأوروبي من عام 1975 حتى عام 1985. وانضم إلى هيئة التدريس بمعهد البحوث والدراسات العربية، التابع لجامعة الدول العربية بالقاهرة، ومثل فلسطين بالأكاديمية الملكية المغربية وظل عضوا بها حتى وفاته.
أسهم الدجاني في تأسيس المؤتمر القومي العربي، وكان عضواً بأمانته العامة. وشارك في إنشاء المؤتمر القومي الإسلامي، وشغل موقع المنسق الأول للمؤتمر بين عام 1994وعام 1997، وعضو لجنة المتابعة للمؤتمر، وكان أحد مؤسسي المنظمة العربية لحقوق الإنسان، وعضو مجلس أمنائها ولجنتها التنفيذية ونائبا لرئيسها.
وشغل منصب عضو مجلس أمناء منتدى الفكر العربي وأسهم في فعالياته. وشارك في أنشطة مركز دراسات الوحدة العربية. والتزم بكتابة مقال أسبوعي؛ يغطي موضوعات سياسية وفكرية وأدبية وتاريخية وإنسانية. وكان يُنشر في صحف عربية عدة.. منها: الأهرام والجمهورية المصريتان والبلاغ الليبية، والخليج الإماراتية. وعُين عضوا مراقبا بمجمع اللغة العربية في مصر وسوريا.
ورغم نشاطه العملي ودوره الحركي استطاع أن يكتب ما يربو على ستين كتاباً في التاريخ والفكر السياسي والدراسات المستقبلية والمسرحية والتأملات، وله بحوث ودراسات في العلوم الإنسانية، وفي الوحدة العربية والقومية والعروبة، ومن بينها بحث ارتبط بنظام الشرق الأوسط الكبير وعنوانه «في مواجهة نظام الشرق الأوسط»، وركز كثيرا على العلاقة التي تربط بين الوحدة العربية والعمل الجماعي العربي، والقضية الفلسطينية واعتبر النكبة سببا جوهريا في تعطيل التوجه العربي نحو التكتل.. وهو من المنادين بتكوين كتلة تاريخية صلبة من أجل التكتل والعمل الجماعي؛ تنأى بنفسها عن الفتن والاقتتال المذهبي والعنف الطائفي والانكفاء الانعزالي.
15- محمد عابد الجابري (1936 – 2010م).. ولد الدكتور الجابري بفكيك، في الجهة الشرقية من الدار البيضاء، ويعد من أبرز المفكرين والفلاسفة في المغرب العربي، واحتفت به اليونسكو وكرمته في ذكرى اليوم العالمي للفلسفة عام 2006. وأخرج مشروعه الفكري في موسوعة «نقد العقل العربي».
وفي قراءة الكاتب ياسر مرزوق للموسوعة (نشرت في تموز/يوليو 2012)؛ ذكر أن الجابري صاحب مشاريع نظرية أكثر لفتاً للانتباه واجتذاباً للنقاش والجدل، ووجد أن معالجة سؤال النهضة يقتضي تحرير العقل العربي وإخراجه من سباته ومواته.. ومثل كل رواد التنوير؛ يطالب بعدم إهمال الفكر أو التقليل من أهميته في التغيير، والتخلي عن النقل والتلقين والخرافة. وانتقد العقل العربي بتقسيماته من التكوين إلى البنية ثم السياسة فالأخلاق.
وفي القسم الأول: «تكوين العقل العربي»، شرح الجابري ماهية العقل، والقواعد الفكرية التي تحدد طريقة تفكير الشخص المنتمي إلى الثقافة العربية؛ ورأى أن الثقافة العربية المكتوبة بدأت وانتهت بعصر التدوين، و»المشروع الجابري» يركز على أنها ثقافة لم تتطور من وقتها للآن. وقسمها إلى ثلاثة أنواع:
1) ثقافة البيان؛ تهتم باللغة العربية والفقه وأصول الفقه وعلم الكلام،
2) ثقافة العرفان وترى أن المعرفة تأتي بالكشف والإلهام، وتنتمي لمواريث كانت منتشرة قبل ظهور الإسلام وانتقلت إلى الإسلام عن فلاسفة عرب تأثروا بنظريات الفيض والعقول العشرة والمتصوفة، وللعلم فإن الفيض منهج معرفي في فهم الذات الإلهية والكون والطبيعة والمجتمع والإنسان.
والعقول العشرة من موروثات التراث الاسماعيلي، المتأثر بالفلسفة اليونانية، ويطبق ما يعرف بالدرجات الكونية العشر على الدعوة الدينيّة، ولخصها موقع الكفيل الألكتروني كما يلي: العقل الاوّل هو الناطق وله رتبة التنزيل، والثاني الاَساس: وله رتبة التأويل، والثالث الاِمام، وله رتبة الاَمر، والرابع الباب، ويتولى فصل الخطاب، والخامس الحجّة، ويحكم فيما كان حقّاً أو باطلاً، والسادس، داعي البلاغ للاحتجاج وتعريف المعاد، والسابع الداعي المطلق ويتولى تعريف الحدود العلوية والعبادة الباطنية. والثامن الداعي المحصور أو المحدود؛ ويتولى تعريف الحدود السفليّة والعبادة الظاهرة، والتاسع العقل المأذون المطلق، وله أخذ العهد والميثاق، والعاشر العقل المأذون المحدود ويجذب الاَنفس المستجيبة.
3) ثقافة البرهان: وهي ثقافة تعتمد على العقل في اكتساب المعرفة، ومتأثرة بالإرث الإغريقي، وما جاء به أفلاطون وأرسطو.
وفي القسم الثاني: «بنية العقل العربي» حلل الجابري نظام المعرفة في الثقافة العربية وانتقده.
والقسم الثالث: «عن العقل السياسي العربي»؛ قال فيه إن التفكير السياسي العربي يقوم على ثلاث ركائز هي:
1) القبيلة؛ وهي مصدر التفكير السياسي قبل الإسلام، واستمرت في عصر الخلافة الراشدة وإبان الحكم الأموي.
2) الغنيمة؛ ومصدرها الأموال التي جُمعت بعد الفتوحات، واستمرت مصدرا ماليا رئيسيا إبان الخلافة الراشدة وبداية الحكم الأموي..
3) العقيدة؛ وتعني الدين الإسلامي، كأساس لصياغة الفكر السياسي عبر العصور الإسلامية المختلفة. إلى أن ثم ظهرت أسس جديدة في الفكر السياسي العربي؛ ارتبطت بنظرية الإمامة عند الشيعة وارتباطها بعودة الإمام الغائب والأخلاق السلطانية، التي دخلت الفكر السياسي العربي من الموروث الفارسي، وتقوم على جوب طاعة السلطان والانقياد إليه.
وأتى القسم الرابع والأخير: عن «العقل الأخلاقي العربي»، فهو موزع بين مواريث خمسة: 1) موروث فارسي ومنطلقه الطاعة والخضوع.. 2) وموروث يوناني ومنطلقه السعادة.. 3) وموروث صوفي ومنطلقه مقولة «أخلاق الفناء وفناء الأخلاق».. 4) وموروث عربي ومنطلقه المروءة، 5) وموروث إسلامي ومنطلقه المصلحة.
وللجابري 30 مؤلفاً أثارت ردود فعل متباينة وجدل لا يتوقف، وهزات في الأوساط الثقافية والفكرية العربية. وذلك دفع كاتبا سورياً كجورج طرابيشي إلى الرد عليه في كتابه «نقد نقد العقل العربي». وانتقد فتحي التريكي بعض أفكاره عن وجود عقل عربي وآخر غربي، وخالفه علي حرب في قضايا اصطلاحية كتفضيل استخدام مصطلح العقل على مصطلح الفكر، فالعقل واحد وإن اختلفت آلياته ومناهجه وتجلياته، كما يُؤثِره على مصطلح التراث.
٭ كاتب من مصر
محمد عبد الحكم دياب
احلى المقالات لاحلك الظروف ارجو ان يكون المقال القادم عن الوحدة العربية في المريخ
لقد اوجزت فاحسنت في هذه المقالة واعطاء القراء الكرام نبدة مبسطة عن هذين المفكرين العربيين الذين ملأوا الدنيا خاصة في عالمنا العربي في فترة حاسمة من تاريخه. وتحملوا مشقة رفع العلم عاليا خفاقا كل في ميدان اختصاصه… الدجاني فيما يخص قضيتنا الكبرى المصيرية ..فلسطين والقدس الشريف… والجابري في اكتساح اصعب موضوع الا وهو العقل العربي من الوجهة الدينية السياسية والنهضوية…الف شكر لكاتبنا المتميز الاستاذ الدكتور دياب…..مع تصحيح بسيط حول مسقط راس المرحوم عابد الجابري.. حيث ان اقليم فكيك يوجد في اقصى الجهة الشرقية من المملكة المغربية… وا لتي تتاخم حدود الجزائر الشقيق….؟…