يبدو أننا نحتاج هذه الأيام إلى استعادة صورة المطبخ التي وظفها كتاب وممثلون سابقا لمعالجة الشأن السياسي فالحراك السياسي في تونس هذه الأيام شبيه بمطبخ مغلق يتابعه التونسيون بصمت ويتشممون رائحته في انتظار أن تحضر الطبخة وتعلن…لا شيئ في الحقيقة يبدو للعيان غير روائح مختلفة وأصوات تعلو وتنخفض وهواجس تظهر وتغيب وأنباء تتردد من هنا وهناك أكثرها من مصادر غير رسمية وشهوات تطفو لدى البعض وإشاعات مغرضة شديدة الحبكة تعودها التونسيون في السنوات الأخيرة…
هذه هي صورة المشهد السياسي منذ عرض الرئيس السبسي فكرة حكومة وحدة وطنية بشكل فجئي معيدا إلى الأذهان مصطلح حكومة وحدة وطنية الذي طرح بعد سقوط نظام بن علي ومعبرا عن فشل تجربة سياسية أخرى طرحت نفسها منذ الانتخابات ومبرزا رغبة أخرى في التغيير …والحقيقة أن المشهد السياسي التونسي مازال فاقدا للاستقرار والوضوح فمختلف التجارب التي طرحت منذ نهاية حكم بن علي قد تم تقويضها وإيقافها واستبدالها كما أنها لم تحقق مؤشرات مطمئنة حول الوضع التونسي ذلك أن هذه التجارب وجدت نفسها أمام صعوبات جمة:إرهاب واحتجاجات واقتصاد متعثر وطبقة سياسية شديدة المناورة وغير طيعة وكثيرة التصادم وشعب ينتظر…
ورغم رتابة الوضع وغموضه وغياب مؤشرات الارتياح وتردد أخبار مختلفة بعضها صحيح وبعضها الآخر مغرض فلم يعد الشارع التونسي كثيف الحراك مثلما كان في الأعوام الفارطة ولم يعد ير في تغيير الأشخاص وربما الأحزاب الحاكمة متنفسا للبلاد…إن ذهاب أسماء ومجيئ أخرى ليس إلا حركة بسيطة لم يعد التونسيون يأملون منها الكثير فلا بد من تصورات حازمة تحقق استقرار البلاد والمواطن وتوقف النزيف والاحتقان وملامح التسيب والفساد والغطرسة التي تزعج التونسيين…لا يمكن أن يكون التغيير الحكومي مهما إلا إذا امسك بخيوط يريدها الشعب الذي مل خطابات الباحثين عن طريق السلطة واستراتيجياتهم المتعددة…
لا تبدو القضية قضية أسماء فالتغيير المنتظر والحكومة الموعودة تطرح إشكاليات مختلفة أهمها في علاقة بالدستور ونظام الحكم ذلك ان إعلانها يحتاج المرور بإجراءات دستورية عسيرة إذ يتطلب الأمر موافقة برلمانية لا تبدو سهلة وقد تربك الأوراق السياسية وتحور خريطة الموالاة والغضب وفي صورة ولادة قيصرية خارج الإطار البرلماني تكون العملية تجاوزا للترتيبات السياسية الطويلة التي انهمك فيها ساسة تونس منذ سنوات وتطلبت إجراء عمليتين انتخابيتين…وقد يفتح هذا الأمر الباب لمراجعة الدستور وإعادة ترتيب النظام وهو ما يبرر حديث البعض بصيغة الإشاعة عن نوايا للإطاحة بالنظام البرلماني والعودة الى نظام رئاسي مثلا…
وبقطع النظر عن الترتيبات القانونية لولادة الحكومة المنتظرة تبدو القضايا الأساسية في الحياة السياسية مطروحة من جديد ويظل السؤال كيف يمكن لحكومة أخرى تخليص البلاد من حالة الفتور وإبعاد الأشباح: ..شبح الإرهاب والتضخم المالي والإفلاس والتوترات الاجتماعية… إن التونسيين يتطلعون بصمت إلى المطبخ السياسي والطبخة الجديدة التي سيعرضها :أي مخرج دستوري وبرلماني سيعتمد وأي أسماء وأحزاب ستصعد إلى دفة الحكم وهل سيتم التخلص من السياسيين والاستنجاد مرة أخرى بمن يسمونهم»تكنوقراط»؟ وهل سيمر التغيير بسلام وسرعة أم أنه علينا انتظار أسابيع وأشهر؟والاهم أي برنامج وأي سياسية ستبعث الأمل؟وهل سيمسك هذا التغيير بخيوط الأمل ويعيد ترتيب الحلم التونسي؟
٭ كاتب تونسي
رياض خليف