قادت ديناميات الثورة السورية إلى أوضاع تتأسس القطيعة الأكثر جذرية وصلابة مع النظام الأسدي فيها على تدين عام أشد. القطيعة ذاتها لا تكاد تحتاج إلى تسويغ، ليس بحكم منطق الثورة وحده، ولكن كذلك بفعل العنف التمييزي والمهول الذي استهدف بيئات سنية حصرا.
قبل الثورة كان التدين الاجتماعي منتشرا في هذه البيئات، لكنه متفاوت، متحرك، شأن كل ما هو حي، وليس صحيحا بحال أنه «طبيعة» قارة منغلقة في هذه المناطق، على ما يفضل أن يقول إيديولوجيو «سوريا الأسد» ومثقفو «أمة السوريين البيض» التي يتماهون بها. صعود التدين في هذه البيئات ليس استمرارا سلبيا لشيء قديم، بل هو تحويل ديناميكي للقديم، يستجيب لشروط المجتمع المعنف، ويساعد على التآلف مع الموت اليومي، ويوفر أساسا فكريا لخوض الحرب ضد عدوان سوريا البيضاء. تجري إعادة تملك للعتاد الديني الموروث واستنفاره كعقيدة للحرب، أي امتلاك السياسة والحرب عبر الدين. في كل حال، المجتمع هو الفاعل والمبادر، وليس المعتقد الديني، وهو الذي يعيد بناء هويته وحياته، والمعتقد ذاته، في شروط القتال.
تسنى لي ملاحظة ذلك عيانا في مناطق الغوطة الشرقية قبل عامين. كان استنفار التدين أرضية للعيش في جوار الموت، وقاعدة للمواجهة الأكثر جذرية، ما دامت هذه المواجهة قد فرضت.
وصعود التدين السابق للثورة، وطوال أكثر من جيل قبلها، ليس هو ذاته مما يقبل العزل عما تعرضت له هذه البيئات من عزل سياسي متدرج ومشتد، بلغ الذروة في العقد السابق للثورة، بفعل تراجع وظائف الدولة الاجتماعية ولبرلة الاقتصاد واتساع القطاع غير المنظم إلى أقل بقليل من نصف حجم الاقتصاد الوطني، والتهميش المتسع لسكان الأحياء الطرفية والأرياف، وعنصرية أمة «السوريين البيض» حيال «العالم الثالث الداخلي».
وبينما يحمل صعود التدين المقاتل معه نزعات اجتماعية محافظة، إلا أنه ليس «رجعيا» بحد ذاته، أعني أن نزعته المحافظة ليست نسقية ولا تجنح حتما إلى فرض نفسها على الجميع.
الحاجة إلى امتلاك الحرب وصعود التدين المقاتل يشرح أن معظم التشكيلات المقاتلة ضد الأسديين تعرض اليوم وجها إسلاميا، وهذه عملية متصاعدة ظهرت بعد أن لم تكن، ولم تتوقف عن النمو منذ أن ظهرت. وهي تجنح نحو التصلب كلما طال الوقت دون الفوز في المعركة. يحركها في الأصل تطلع إلى التشكل كمجتمع محارب في شروط الحرب المفروضة. وهي تفسر أيضا التعذر المتصاعد للفصل بين المجموعات المقاتلة، المحلية في عمومها، المرتبطة ببيئاتها ومناطقها الخاصة، وبين «جبهة النصرة» مثلا ذات التكوين المغاير، اللامحلي والصلب. الفرق الجوهري أن التدين المقاتل في عمومه جهد محلي تحتي لامتلاك الحرب عبر الدين، ولإعادة امتلاك الدين ذاته في شروط الحرب، فيما «النصرة» جماعة نخبوية تعمل على فرض نموذجها الناجز من فوق على البيئات المحلية. وبينما الأولى نتاج تام لديناميات الثورة والحرب، فإن «النصرة» تطعيم من خارج، منبعه هو تنظيم «القاعدة» وليس القاعدة الاجتماعية المحلية، وإن تكن شروط الثورة والحرب وفرت لهذا التطعيم شروط «التوحش» المناسبة. داعش تطعيم خارجي بصورة شبه كلية، ودينامياتها عراقية أساسا ودولية.
ربما تضاف مؤثرات أخرى في نشر وتعميم التدين المقاتل، أهمها دعم خارجي، خليجي أساسا، لتشكيلات مقاتلة متدينة؛ ثم اندراج أمة الأسديين في معسكر إقليمي شيعي تقوده إيران، بما يغذي بدوره التدين السني المقاتل. لكن هذين عاملان مكملان لفعل الديناميات الداخلية، وليسا عاملين منشئين. الأساسي هو الديناميات الاجتماعية والعسكرية والسياسة والنفسية للثورة والحرب.
ويفاقم تأثير هذه الديناميات ضعف الخيارات الأخرى. الوطنية السورية منخورة من قبل بـ«سوريا الأسد»، وفاقم من نخرها العنف التمييزي ضد البيئات السنية. وفي مواجهة عدو داخلي، وشروط الحرب الأهلية عموما، لا تصلح الوطنية أساسا للمقاومة الشعبية. هذا دون قول شيء عن أنها اقترنت خلال جيلين من السنين باستعباد عموم السكان سياسيا وتحكم طغمة عدوانية بمصائرهم. ورغم جهود طيبة قامت بها مجموعات ديمقراطية، شابة ومخضرمة، إلا أن أثرها العام كان محدودا بفعل الانقطاع المديد لأية مجموعات سياسة مستقلة عن بيئات اجتماعية حية، ثم لاستهداف المجموعات الديمقراطية من قبل النظام، ثم من قبل الإسلاميين التسلطيين والفاشيين. ولضمور الحس الشعبي والجمهوري عند قطاعات من الديمقراطيين السوريين إسهام كبير في تعقيمهم، قبل الثورة وأثناءها.
وهو ضمور يشاركهم فيه عموم الإسلاميين. تميل المجموعات الإسلامية، وبخاصة التي تظهر بتطعيم خارجي، إلى تطوير نموذج سياسي تسلطي، وتتطلع إلى بناء سلطة مطلقة من فوق تضع في جيبها التدين الاجتماعي المقاتل الصاعد من تحت. المضمون الجمهوري والديمقراطي لامتلاك سكان محليين للسياسة والحرب عبر الدين يتهاوى في كل حين تحت الهياكل الضيقة للسلطة والطاعة التي تفرضها هذه المجموعات الإسلامية المقاتلة الأكثر تنظيما وموارد في مناطق سيطرتها. هذا ظاهر من نموذج «جيش الإسلام» الذي لم يقمع بالخطف والاغتيال مناضلين ديمقراطيين فقط، وإنما خاض حرب استئصال ضد تعبيرات المقاومة المحلية التي كانت حررت دوما في الأصل. وهو يستند إلى قوى إقليمية تستأجره وتعطيه وزنا مستعارا، يستقل به عن المجتمع المحلي وعن تدينه التحتي.
ويوفر تعثر الثورة المناخ الأنسب لإخضاع التدين التحتي المقاتل للتدين الفوقي التسلطي، مثلما كانت الهيمنة الإسرائيلية وفرت شروطا مناسبة لتسخير نزعات عموم السكان القومية ضدهم وبغرض إخضاعهم. كان من شأن التمكن من إسقاط النظام، وهو ما كان ممكنا فعلا بين أواخر 2012 ومطلع 2013 (لولا أن الأميركيين وأتباعهم الإقليميين تدخلوا عبر تشيكلات أتباع لهم، ومنها بخاصة «لواء الإسلام» حينها، لكبح الزخم التحريري ووقفه وانكفائه، وسط إحباط وانقسام متصاعد في أحياء دمشق المحيطة بالعاصمة وسكان الغوطتين)، أقول إنه كان من شأن ذلك أن يبقي المضمون الشعبي التحرري للتدين التحتي المقاتل، الأدنى تنظيما، قويا، ويوجهه ضد أي متسلطين جدد. نقطة ضعف التدين المحلي المقاتل أنه ضعيف التنظيم والموارد، وهي نقطة تنقلب عليه كلما استطال الصراع وانسد الأفق.
التدين المقاتل، في المحصلة، من لوازم التغير السياسي في الشروط السورية العيانية، وهو تغير واجب ولا بديل عنه غير تعفن شامل. لقد صعد بفعل ديناميات الثورة الحرب، وانكفأ وأضعف بفعل ديناميات لجم الثورة وتعثرها. تنتعش على حسابه وضده ظواهر تسلطية دينية، تضمن استقلالها عن المجتمع المحلي إما بالتبعية لجهات خارجية، أو برفع سيف الدين فوق رؤوس السكان، أو بالوحشية المحض.
يبقى سقوط سوريا البيضاء واجبا قطعيا، ليس فقط عقابا على جرائم لا تحصى، ولكن لأن من شأنه أن يساعد في استقلال التدين المحلي التحتي المقاتل عن التدين التسلطي الفوقي المغرور. كان يمكن تفادي أذى هائل لولا الخيانة الكبيرة التي وقعت بين أواخر 2012 ومطلع ربيع 2013.
qwraq
ياسين الحاج صالح