الثورة العربية الكبرى… إعادة إنتاج أم استعادة اعتبار

احتفلت الأردن بمئوية الثورة العربية الكبرى، باستدعاء مجموعة من التصورات التاريخية.
ومع أن الأردن لا يعتبر في تطوره التاريخي منجزاً للثورة بالمعنى المباشر على الأقل، ولكن في هذه الاحتفالات الأردنية يتقدم معامل الثورة على بقية العوامل الأخرى التي صاغت الأردن منذ العشرينيات إلى اليوم، وفي ذلك دلالة على تعريف الأردن بوصفه جزءاً من ديناميكية تطور المنطقة، كما أراده الملك المؤسس عبد الله الأول، فكان يعتبر الأردن مرحلة تجاه تحقيق مملكة عربية أكثر اتساعاً، فيما يعرف بسوريا الكبرى أو الطبيعية، ولكن الظروف الدولية دفعته إلى الإبقاء على طموحاته في إطار الإمارة التي تحصل عليها، والتي أصبحت لاحقاً المملكة الأردنية الهاشمية.
الفرنسيون خدمتهم الثورة العربية كغيرهم من القوى الاستعمارية الأوروبية، ولكنهم كانوا متحررين من أي ترتيبات مع العرب، وكان على الإنكليز أن يتعاملوا مع حقيقة وعودهم التي يبدو أنها كانت أصلاً محلاً للخلاف، في أروقة السياسة البريطانية في ذلك الوقت، فإفساح المجال لدولة عربية مستقلة كان يعني أن يفقد الإنكليز عملياً ما تحصلوا عليه من معبر مهم يربطهم جغرافياً وعملياً مع مستعمراتهم في آسيا، وهو الأمر الذي ينطوي على مكاسب استراتيجية واقتصادية كبيرة، ولذلك فإن فريقاً من أصحاب العقلية الاستعمارية تمكن من فرض رؤيته على المنطقة، وكان تشرشل يضع لمساته الأخيرة على مستقبل المنطقة.
الثورة العربية كانت فعلاً لا مناص منه من الناحية التاريخية، والاضطرابات كانت ستعم منطقة سوريا ولبنان وما حولها لمواجهة التخبط العثماني، الذي كان يتوجه إلى التلاعب بالعرقيات المحيطة بكتلته الصلبة في الأناضول والروملي، فبدأ العثمانيون بالأرمن والأكراد، وكان العرب يتبعونهم في القائمة، وخروج الشريف الحسين ربما لم يكن الخيار الأفضل في المدى البعيد، ولكنه أيضاً أنقذ التيارات العربية في الشام من خسائر فادحة كانت ستقع أثناء وبعد ارتدادات الحرب العالمية الأولى، ولذلك استقبلت دمشق الثورة العربية الكبرى بوصفها فعلاً للتحرر القومي، حيث لم تكن بعد فكرة الوطن قائمة أو متبلورة لدى النخبة في الإقليم الشامي، والبريطانيون قدموا حاميتهم في السويس لإسناد الثورة وضمان نجاحها، بينما كان الفرنسيون يتعاملون بنزق استعماري جعلهم مستعدين للتلاعب، بل والانقلاب على جميع الترتيبات المنجزة سابقاً، في حالة خسارتهم للموقع المأمول في شرق المتوسط، ذلك الذي فشلت جيوش نابليون في السيطرة عليه قبل ذلك بأكثر من قرن من الزمن.
الثورة العربية كانت حاضرة وغائبة في خطاب الهوية الوطنية في الأردن، فالحديث عن الثورة ومبادئها كان مسألة من شأنها أن تثير البعثيين في دمشق وبغداد، كما أن الأردن، وجد في موقعه من دول الطوق، مدخلاً لهوية جديدة بقيت تعطيه زخماً مركزياً، على الرغم من حجمه الصغير وإمكانياته المتواضعة، في المعادلة العربية، وبذلك أصبحت الثورة الفلسطينية، بمعناها الأوسع من التنظيمات والحركات الوطنية الفلسطينية، هي التصور الذي ارتكنت عليه الدولة في الأردن لتعريف هويتها في الإقليم، وكان ذلك مدخلاً إلى تحويل الثورة العربية الكبرى إلى طقس بروتوكولي وتغييب فلسفتها ومبادئها عن المشهد الأردني.
تعرضت تجربة الهاشميين في الأردن، وهي التي تبقت بعد تجربة قصيرة في سوريا، وأخرى دموية في العراق، لكثير من النقد الذي تصور أن على الأردن، وفي ظل إمكانياته المتواضعة، أن يتصدى للتعامل مع الصراع العربي ـ الإسرائيلي، بوصفه معادلاً موضوعياً لمصر الناصرية، وبقيت مناورات الملك الحسين للتعامل مع معطيات السياسة الدولية وتأثيراتها الإقليمية موضعاً للنقد الدائم، والنقاد الذين وضعوا أياديهم وأرجلهم أيضاً في الماء البارد، لم يدركوا أن الأردن يتحمل أكثر من طاقته ومن قدراته، وأنه أيضاً يتحمل مزاودات متكررة من قادة دول عربية، أثبتت الأيام مدى انتهازيتهم، مثل علي عبد الله صالح والعقيد القذافي، ومع ذلك كان على الأردن، أن يواصل أيضاً استرضاء واحتواء هذه العنتريات، من دون أن يدخل في اشتباك مباشر معها لقدرتها، نظرياً، على التشويش والمضايقة، واستجلاب الحرج على الأردن.
هذه التجربة بقيت تحاول البحث عن هوية أخرى بعد تراجع القضية الفلسطينية من موقعها في مقدمة الأولويات العربية بعد حرب الخليج الثانية، ولكنه لم يلجأ لاستعادة الثورة العربية الكبرى، والدور الهاشمي، فالكثير من الدول العربية استقبلت بتوجس حديثاً عن استعادة الهاشميين لدور في العراق في منتصف التسعينيات، كما كان حضور الأمير الحسن، وضمن حديث أكثر جدية، مؤتمراً للضباط العراقيين في لندن سنة 2002 يجعل الأردن الرسمي متحفظاً تجاه الحديث عن دور أوسع للهاشميين خارج حدود المملكة، التي استقرت عملياً وبصورة كاملة بعد اتفاقية وادي عربة مع الجانب الاسرائيلي.
الثورة العربية ظلمت من خلال إسقاط وعي التحرر الوطني في الستينيات على تجربتها، وظلمت مرة أخرى بعد أن جرى تصويرها، بسوء أو حسن نية، بوصفها ملازمة للهاشميين ومرتبطة بدورهم السياسي، والواقع أن الثورة كانت حركة شعبية متأهبة وقابلة للتفجر في أي لحظة، وتقدم الشريف الحسين بن علي لقيادتها ضمن ملابسات تاريخية معقدة، وكانت مبادرته تنطوي على جانب من البراءة الطوباوية السياسية، وقدر كبير من الشجاعة والثقة في ذاته، وبالطبع الطموح الشخصي الكبير، وساعدته أيضاً ظروف إحكام بريطانيا القبضة على مصر بعد إنهاء السيادة العثمانية الإسمية رسمياً في نهاية 1914، بما يجعل أصلاً خيارات الانطلاق بفعل ثوري عربي على سلطة عثمانية متخبطة وواقعة هي الأخرى في الفوضى، وكانت واحدة من النقاط التي أوقعت الشريف الحسين في مأزق واسع بعد نجاح الثورة، هي الخلط بين المنجز العربي الذي أدى إلى استقلال جرى التغول عليه استعمارياً بسرعة ومكر، وبين الطموح في وراثة الخلافة العثمانية، وهو ما أوقع الثورة لدى قطاعات المتدينين في موطن الارتياب، من دون الانتباه إلى أن الثورة استهدفت النزعة التركية العصبوية القومية، التي تمثلت في رجال الدولة المتعصبين للتتريك مثل أنور باشا وجمال باشا، من دون أن تكون ثورة على الخلافة، أو أن تتقصد الخروج عن السلطة المعنوية لخليفة المسلمين، وهي السلطة التي اغتصبها العثمانيون في وقت سابق بعد تنازل الخليفة المتوكل على الله الثالث للسلطان سليم الأول – تاسع السلاطين العثمانيين – عن لقب الخلافة الذي كان شكلياً محضاً تحت واقع الحكم المملوكي في مصر.
ربما يكون استدعاء الثورة، ومنحها زخماً كبيراً، وإعلانها نقطة الأصل لنهضة عربية، هي بالتأكيد فعل مستقبلي، حيث أن أحداً لا يمكنه أن يرى علائم نهضة في أي مكان في العالم العربي، أمراً يتطلب مزيداً من التأويل، فالأردن يعرف تاريخياً حدود دوره، وطموحاته بقيت دائماً تتسم بالواقعية، وكان الحديث عن التوسع بالدور الأردني، وحتى الوجود الأردني، حديثاً يثور دائماً من خارج عمان لا من داخلها، وإن كانت عمـــان تعتبر ذلك في كثير من الأحيان اعترافاً متأخراً بدورها في السابق، فإنها تعاملت سابقاً بحذر مع الحديث عن دور أردني يكون على حساب دول الجوار، فهل كانت استعادة الثورة العربية إعلاناً عن متغيرات في الموقف الأردنـــــي، الذي يرى أن صلاحية تسويات ما بعد الحرب العالمية الأولى أصبحت منتهية الصلاحية، وأنه الدولة الوحيدة التي تستطيع أن تتحمل مسؤوليات أوسع اليوم، أم مجرد اعتراف متأخر بمدى الظلم الذي تعرضت له الثورة من النخب العربية على المستوى السياسي والفكري؟

٭ كاتب أردني

الثورة العربية الكبرى… إعادة إنتاج أم استعادة اعتبار

سامح المحاريق

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    آخر خليفة للمسلمين كان السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله والذي عزله الماسونيين الأتراك (جمعية الإتحاد والترقي) سنة 1909
    ولهذا فالعرب لم يثوروا ضد الدولة العثمانية إنما ثاروا على أعداء الخليفة الشرعي للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها
    ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول خليل ابورزق:

    من المفارقات في تلك الفترة ان مصطفى كمال (الذي عرف فيما بعد باتاتورك يعني اب الاتراك) كان مسؤولا عن الحامية العسكرية في ليبيا عند سقوطها في عام 1911 تحت الاحتلال الايطالي. ثم انه كان الامر الاعلى للقوات العثمانية التي كانت في فلسطين عشية دخول القوات البريطانية القدس في 7 ديسمبر 1917 بدون قتال

إشترك في قائمتنا البريدية