الجدار صنو الإنسان المتحضر، فمنذ أن ابتدأ (الانسان العاقل) ببناء الجدران، كانت تلك اللحظة هي نقطة بدء التحضر.
ويشير البعض إلى أن الأمر سبق بناء الجدران في إشارة إلى إنسان الكهوف، حين اتخذها مأوى له، حيث حقق خصوصية المجموعة البشرية التي تعيش في مكان محدد تختص به، ومنها ابتدأت اللبنة الأولى، عبر تجميع العوائل ليكونوا القرية التي تحولت إلى مدينة وبدورها تحولت إلى مملكة وامبراطورية، وقد تماهت الجدران مع الكثير من أنساق الحياة البشرية، من السكن إلى الدين مرورا بالفن والقانون والسياسة. فمع رسوم الكهوف التي اكتشفت في إسبانيا ثم فرنسا وبعدها في العديد من بقاع العالم، عرف الآثاريون أول تجليات الفن لدى أسلافنا، وكما بات معروفا أن رسوم الكهوف حددت بفترة عرفت بـ (مرحلة ما قبل التاريخ) حوالي ثلاثين ألف سنة قبل الميلاد، وقد تم العثور على أول رسوم الكهوف في كهف آل كاستلو في كانتبيرا في إسبانيا، وهي منطقة جبلية وعرة يصعب الوصول لها، ولم يتم العثور في هذه الكهوف على دلائل حياة بشرية، ما دفع بعلماء الآثار إلى تبني نظرية مفادها أن هذه الكهوف كانت تستعمل لأغراض دينية فقط، حيث يلجأ لها الشامان ليقوم بطقوسه الدينية التي ترجو توفر الصيد الوفير من خلال قراءة رسوم الحيوانات المرسومة والملونة بدقة على جدران الكهوف، كما أن نظرية علماء الآثار في جامعة بنسلفانيا اعتمدت طرقا بحثية حديثة قررت من خلالها أن أغلب تلك الرسوم رسمت بأيدي أناث.
وبقي الجدار يلعب دورا مركزيا في حضارات الإنسان الأولى، فقراءة آثار الحضارة الرافدينية والحضارة المصرية مليئة بالجدران التي تخبرنا الكثير عنها، ففي هذه الحضارات تحولت الجدران إلى وسيلة الإعلام الرئيسة التي تقص حكايات انتصار الملوك وتمجدهم في جداريات تظهرهم وهم يسحقون الأعداء ويتلقون بركات الالهة، بل حتى القوانين كانت تكتب على جدران، أو ما يقترب من شكل الجدار، أي على شكل ما عرف بالمسلات التي توضع في مكان مركزي في المعبد الذي يتوسط المدينة عادة وتكتب عليها قائمة بقوانين الدولة.
كما لعب الجدار دورا مهما في الأديان، ومنها الأديان الإبراهيمية، وتكفينا الإشارة هنا إلى النزاع على حائط المبكى عند اليهود، أو حائط البراق عند المسلمين، وهو الحائط الغربي للمسجد الأقصى، حيث يؤمن المسلمون أن النبيَّ محمدًا (ص) خرج من المسجد الحرام بصحبة المَلَك جبريل راكبًا البراق، فنزل في المسجد الأقصى وربط البُراق بحلقة باب المسجد عند حائط البراق، وصلّى هناك ثم عُرج به من الصخرة المشرّفة إلى السماء، في ما عرف بـ(الاسراء والمعراج). بينما يؤمن اليهود بأن هذا الجدار هو الجزء الوحيد المتبقي من هيكل سليمان، الذي دمر في سنة 70 ميلادية، ولم يبق منه غير هذا الجزء، لذلك تتسم صلاتهم ومناجاتهم عند هذا الحائط بالبكاء والنواح على هيكلهم المقدس، لذلك عرف بحائط المبكى. كما يمكننا الإشارة إلى جدار آخر في الديانة الاسلامية، ذي اهمية خاصة جدا، وهو (الأعراف) الذي يمثل بحسب المفهوم الاسلامي السور أو الجدار الشاهق الذي يفصل بين الجنة والنار، حيث يحتشد جزء من البشر يعرفون بأصحاب الأعراف بحسب سورة الأعراف في القرآن الكريم، وقد بين علماء التفسير والحديث أن الاعراف مكان بين الجنة والنار، وهو سور عالٍ يطلِّع منه أصحابه على أهل الجنة وعلى أهل النَّار، ثم يُدخلهم ربهم عز وجل في آخر المطاف جنَّته حين تشملهم رحمته، ولا يدخلون النار، وأرجح الأقوال فيهم أنهم أقوام استوت حسناتهم وسيئاتهم، والفكرة الفلسفية لهذا المفهوم تقترب من فكرة المطهر الذي يتوسط الجحيم والفردوس لدى الكاثوليك، وهو مكان تذهب إليه أنفس الخطاة من المؤمنين الذين لم يتوبوا توبه كاملة عن كل خطاياهم فيذهبون إلى المطهر حيث يطهرون بالعذاب بالنار لمدة يحددها الرب بحسب ذنوبهم، ثم تشملهم رحمته حين يصبحون مؤهلين للدخول في ملكوت الله، وهذا ما كتبه أحد أهم رموز عصر النهضة الشاعر الإيطالي دانتي في كتابه «الكوميديا الإلهية» باجزائه الثلاثة (الجحيم، المطهر، الفردوس). وقد ألهم عمل دانتي العديد من الرسامين من عصر النهضة حتى العصر الحديث، فزينوا جدران القصور والكاتدرائيات والكنائس بلوحات تمثل رحلة الشاعر وعوالم الكوميديا الإلهية، وهنا لعب الجدار دورا متحفيا حفظ الفنون الرفيعة كالرسم والنحت بما حواه من ايقونات مثلت رمزا وملمحا تاريخيا لعصر النهضة وما تلاه. وفي العصر الحديث لم يقف الفن عند جدران الكنائس والقصور والكاتدرائيات، بل تعداه إلى جدران البيوت والجسور والمباني العامة، حيث برز ما عرف بـ (الجرافيتي) في الستينيات من القرن الماضي في نيويورك بإلهام من موسيقى الهيب هوب، ومن ثم أصبح رديفا ومعبرا عن توجهات العديد من حركات الاحتجاج الاجتماعية والسياسية والفنية، فالكتابة والرسم على الجدران يقف وراءها العديد من الدوافع، كما أشار من درس هذه الظاهرة من علماء النفس والاجتماع.
جدار وعلبة رش الصبغ كانت سلاحا فعالا في مواجهة الانظمة الشمولية في العالم، ومنها النظام العراقي قبل 2003، عندما يصحو الناس صباحا ويعثرون على كتابات مناهضة للنظام يتحول الجدار إلى مصيبة تتجمع على أثرها قوات الأمن وتبحث وتحقق في محاولة للوصول إلى الفاعل والانتقام منه، ومن طرائف ما يروى عن تلك الايام السوداء، أن رجلا ساذجا افتتح محلا لبيع وتنظيف الدواجن المذبوحة في الثمانينيات، وتملقا منه للسلطة سمى محله (مجزرة قادسية صدام) وملء الشوارع باعلانات مرشوشة على الجدران، مما جعله يتعرض لحفلة تعذيب على يد رجال الأمن، حتى تبين لهم أنه رجل ساذج لا يقصد من ذلك إساءة او تحديا للنظام، فافرجوا عنه بعد تعهده بمسح ما كتب وتغيير اسم المحل، فتعهد لهم بذلك واخبرهم بانه سوف يسمي المحل باسمه، فغيره إلى (مجزرة ابو عدي) وهذه كانت كنيته وفي الوقت نفسه كنية الرئيس، فانطبق عليه المثل (اراد يكحلها عماها).
وقد التقط هذه الجزئية الفلسفية عن أهمية الجدار شاكر حسن آل سعيد أحد اكبر الفنانين التشكيليين في العراق، وهو الذي أسس مدرسة (البعد الواحد) بداية سبعينيات القرن العشرين، وكان متأثرا بالفنان الاسباني أنطونيو تابيس، الذي انطلق من السريالية والدادائية إلى التجريدية، ورسخ مفهوم الجدار في الفن الحديث، لكن آل سعيد استلهم أعمال تابيس ابان دراسته الفن في باريس نهاية الخمسينيات، وأضفى عليها ما استلهمه من روحية الحرف العربي، ثم أطره بإطار فلسفي ذي بعد صوفي، ففي لوحاته كنت تقرأ محاولة استلهام تأثيرات الزمن على الجدار من خربشات وكتابات وآثار مادية أخرى، وأصبح مفهوم الجدار في الفن العراقي الحديث صنوا لأعمال شاكر حسن آل سعيد، لكن لا تفوتنا هنا الاشارة إلى أهم جدار في تاريخ التشكيل العراقي، واقصد به جدارية نصب الحرية التي صممها المعماري العراقي رفعت الجادرجي ونفذ أعمالها النحتية الفنان العراقي الابرز جواد سليم، لتمثل جملة مكتوبة على حائط، جملة كأنها كتبت بختم اسطواني سومري على جدار، تحكي تاريخ العراق السياسي الحديث في سلسة منحوتات في اكبر ساحة في بغداد.
وفي عراق التسعينيات ومع تقشف المؤسسات بسبب الحصار المفروض على البلد، تم تقليص عدد صفحات الجرائد توفيرا للورق ومستلزمات الطباعة، وتم ذلك بإلغاء بعض الصفحات التي اعتبرت غير ضرورية، ومنها صفحة الوفيات، الصفحة التي ينشر فيها الناس اخبار وفياتهم، فتحولت جدران محددة في بغداد إلى صفحات وفيات، في أماكن مركزية من الشوارع التي يمر بها سكان المناطق التي امتلأت بلافتات النعي السوداء التي اعتادها العراقيون منذ سيول الشهداء في الحرب في عقد الثمانينيات، وكانوا يظنون انها ستصبح ذكرى بعد انتهاء الحرب، فاذا باللافتات السوداء تصبح سمة ورمزا للعراقيين ولجدرانهم المنكوبة منذ ما يزيد على النصف قرن.
وإذا تحدثنا عن علاقة الجدار بالسياسة فيجب أن نذكر (جدار برلين) أشهر جدار في التاريخ الحديث، الذي ارخ بسقوطه في 9 نوفمبر 1989 نهاية حقبة الحرب الباردة، الجدار الذي بني مع بداية الحرب الباردة، بعد تقسيم ألمانيا إلى شرقية وغربية، كسور محيط بالجزء الغربي من العاصمة برلين، اقتطع جزءا في أقصى المانيا الشرقية تابعا لجارتها اللدود الغربية، ليشهد اعتى حرب مخابراتية بين ضفتيه على مدار ثلاثة عقود من عمره، لكنه لم يكن جدارا عازلا يمثل سجنا كما هو الحال مع جدار الفصل العنصري الذي بناه الكيان الصهيوني على مسافة تزيد على 700 كم ليسجن بداخله شعبا كاملا، ليمثل وصمة عار في جبين الإنسانية التي تتفرج على بنائه دون أن تحرك ساكنا.
٭ كاتب عراقي
صادق الطائي
حدثني أحد ابناء الكرادة، المغترب منذ اربعة عقود، قال نقلا عن جده:
كان لاحد معسكرات الانكليز، جدار بعلو عتبة دار لا كثر، وكانوا يرصون على جنباته مؤونة المعسكر.
كان المعسكر بين حقول فلاحين، وكان بعض الفلاحين يفرشخ من فوق الجدار ليسرق ما امكن حمله.
علم بذلك صاحب الارض، فتوجه للمعسكر والتقى القائد. قال له: وجب اعلاء الجدار، فبعض الفلاحين يسرق.
قال له قائد المعسكر، مبتسما: نعرف، ولذلك جعلنا الجدار في الاصل منخفضا.
اللهم لا تجعل بيننا وبين القدس العربي جداراً
شكراً للمقال الممتع يا أستاذ صادق
ولا حول ولا قوة الا بالله
أمرٌ على الديارِ ، ديارُ ليلى أقبلُ ذا الجدار ، و ذا الجدارا
و ما حبٌ الديار شغفْنَ قلبي و لكن حبٌ من سكنَ الديارا
لله دره قيس إبن الملوح ، فقد عرف قيمة الجدار !
تحياتي شكرا على المقال الجميل … ولكن استغرب عدم الاشاره إلى الجدران التي قسمت بغداد جزافا إلى مناطق سنيه واخرى شيعيه وقد عملت فيلما وثائقيا عنها وكيف ساهم برفع وتيرة الصراع … هكذا وجد الأمريكان الحل السحري !؟