الجريمة ومرايا الموت

حجم الخط
3

كان المشهد غرائبياً في ذلك المساء في حي الأشرفية، الذي يسمونه «الجبل الصغير»، في بيروت. وصل الخوري بطرس الخوري، كاهن كنيسة مار يوحنا في قرية الخنشارة، وهو يحمل ضمة من أغصان الزيتون وبدأ يرش الماء المُقدس في أرجاء منزل ميشال سماحة وعلى رؤوس الحاضرين ووجوههم وهو يرنم طروبارية الظهور الإلهي التي تُرتل عادة في عيد الغطاس، وفي طقس المعمودية.
امتزج الترتيل بالجريمة، هكذا تكون الجريمة خليطاً من القداسة والوحشية، أو لا تستحق اسمها. فالجريمة هي الغواية الكبرى، وكل الغوايات الأخرى تصغر أمام هولها. يكفي أن تنظروا في عيون المجرمين كي تكتشفوا كيف تتزجج العين ويصير بياضها أملس.
وحدهم المجرمون يحملون مرايا الموت في عيونهم، ويتحممون بقداسة ملوثة بدماء الضحايا.
لم يكن المشهد مستغرباً، فهذا التقليد الإجرامي قديم، شاهدناه خلال فصول الحرب الأهلية اللبنانية كلها، ونشاهده اليوم في سوريا، من جهة يرش الكهنة الروس الماء المقدس على الطائرات التي تقصف سوريا، ومن جهة أخرى يسنّ الداعشيون سكاكينهم على إيقاعات الآيات والأناشيد الدينية. هكذا تستولي الجريمة على القداسة، وتتمسح بها، وتحولها بقعاً من الأسى والمآسي.
لكن هل كان السيد سماحة في حاجة إلى كاهن ضيعته كي يرشه ويعيد تعميده؟ ألم تكفه بركات الديكتاتور السوري ودعوات اللواء علي المملوك الذي أرسله محملاً بالمتفجرات من أجل أن يُغرق لبنان في الدم؟
حيرني مشهد الكاهن، ولم أجد له تفسيراً، فالجريمة التي توغلت في أزقة الحرب الأهلية اللبنانية، من مذبحة صبرا وشاتيلا إلى ما لا آخر له، ثم وضعت نفسها في خدمة حقل الموت السوري تنتشي بالدم، وتتلذذ بسماع أنين الضحايا، هذه هي عباداتها، وهنا يكمن إيمانها الوحيد. الجريمة تعبد القوة، والقوة تصنع المال والنفوذ، فلماذا جلبوا الكاهن؟ لماذا لم يكتفوا بطقوس النصر على الضحية؟
أغلب الظن أن مجيء الكاهن لم يكن عفوياً، بل كان جزءا من سيناريو الجريمة التي لم تتحقق. مشكلة السيد سماحة ليس الجريمة بل فشلها. الوزير والنائب السابق، الكتائبي النشأة والذي تمرس في المهمات حين عمل مستشاراً لإيلي حبيقة الذي نفذ مجزرة صبرا وشاتيلا خدمة للإسرائيليين، ثم صديق سورية الأسدية ومستشار بشار الأسد، ملك التقلبات ومهندس استراتيجيات الممانعة، سقط في الفشل. أوقعه جهاز الأمن اللبناني في الفخ فوقع، ورغم أن رئيس شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي، وسام الحسن، قُتل غيلة وامحت بقاياه، رداً على اعتقال السيد سماحة، مثلما يُشاع، لكن الفشل غير مسموح، والسيد سماحة، في حاجة إلى براءة تعيد موضعة جريمته، أي تضعها في سياقها الطائفي والديني، وتدخلها من جديد في حمّى الصراعات الطائفية التي تلتهم المنطقة. ألا تذكرون أشرطة الفيديو التي كان يسرّبها شبيحة نظام الأسد في بدايات الثورة السورية، وهم يدوسون على ضحاياهم ويطلبون منهم السجود وتقبيل صورة الأسد والاعتراف بألوهيته!
إله الجريمة، أرسل السيد سماحة بشارة موت، ونذير انتقام، ومن الواضح أن الرجل أخطأ أو خُدع، واضطر إلى الإعتراف. لكن «الفتى» الذي تربى في أحضان الفاشية اللبنانية، قبل أن تتقاذفه أدرع المخابرات الاسرائيلية والسورية، التجأ إلى الماء المقدس، لا كي يستغفر ربه ويعتذر من ضحاياه، بل كي يستعيد مكانته في المكان الذي بدأ منه، ويستكمل مسيرته في حكاية «وحدة المسار والمصير» الذي يصنعه الاستعباد والقتل.
ميشال سماحة مظلوم، بل ربما كان أكثر مجرمي هذه الحقبة السوداء التي افتتحها اغتيال سمير قصير، مظلومية. كل الجرائم التي ارتكبت سجلت ضد مجهولين، كلنا نعرف مصدر القتل ومنظمه، لكن يد الجريمة كانت الأعلى. الجريمة تتجول في الشوارع والساحات، والقتلى في عتمة القبور. هذه هي عبقرية ملك الجريمة الجالس فوق أكوام الجماجم التي تحيط بقصره الذي تحميه الطائرات.
جريمة ميشال سماحة الكبرى أنه فشل في ارتكاب جريمته، وبهذا المعنى هو الأكثر صدقاً في عالم الجريمة الذي يفترس سوريا ولبنان، والأكثر اثارة لمزيج من الشفقة والاشمئزاز. أقرانه يصولون ويجولون في كل مكان من وطننا اللبناني، أما هو فتبهدل وبهدل معه أحد أكثر أنواع الفاكهة جمالاً. ففي الفيديو الذي تسرّب عن تهريب المتفجرات كان السيد سماحة يأكل «الصبير» ويمدحه. فتمت اهانة أكواز الصبار، وعلى هذه الاهانة وحدها يستحق الرجل العقوبة. فالصبار هو فاكهة الفقراء، وتين الشوك الذي يحول الأرض القاحلة إلى مصدر للماء.
صدق الرجل لأنه قال ما لم يقله أحد غيره. فنحن لم نشهد اعترافاً بالصوت والصورة كالاعترافات التي ادلى بها سماحة. ربما كان هذا هو السبب الحقيقي وراء إطلاق سراحه، فلبنان لا يحتمل صدق الجريمة، ولا يستطيع أن يتابع البحث، لأن أي بحث سوف يقود إلى الفضيحة التي تقول بأن جميع أفراد طبقة المافيا الطائفية الحاكمة هم مجرمون، وجرائمهم التي تعشش في صمت العتمة تستطيع أن تستفيق في أي لحظة تشاء، وتعيدنا إلى مسلسل الموت.
الأشرفية التي شهدت، عقب إطلاق سماحة، تجمعات احتجاج تجد نفسها للمرة الأولى مضطرة إلى الاختيار بين الجريمة والعدالة.
فعلى بعد عشرات الأمتار من ساحة ساسين، حيث منزل سماحة، وعلى جانب الطريق التي تنحدر بعد مدرسة «زهرة الإحسان»، تنتصب زيتونة أمام حائط صغير حمل صورة سمير قصير. الزيتونة التي امتصت دم الكاتب والصحافي الشهيد وحولته زيتاً، طهّرت الأرض من الجريمة وأعادت تقديسها بدم بريء سُفك من أجل أن يُزهر ياسمين دمشق حرية.
إطلاق سراح ميشال سماحة يعيد الحكاية إلى مصدرها، أي إلى مقاومة الاستبداد والطائفيات المتوحشة. ويدعونا إلى زيارة زيتونة سمير قصير التي تشابكت في أغصانها آلام لبنان وسوريا وفلسطين، كي نجدد التزامنا بقضيتي الحرية والعدالة.

الياس خوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    لأول مرة أعجز عن التعليق
    فالمقال إنساني بالدرجة الأولى!
    ولهذا فلتخسأ السياسة ويحيا الإنسان
    ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول غادة الشاويش المنفى:

    استاذ الياس صباح العدل والقوة صباح كلمة ذات باس شديد حتى لكانها السيف صباح الخير كاهن الظلم كان قد صلب المسيح على صليب البركة الذي يلوح فيه كان يسقي دمه للسفاح سماحة وينهش جسده ويفتت لحمه تحت اقدام سماحة كاهن الظلم هذا كان يسفك كل دقيقة دما وهو يمنح البركة لعنصر منحط ميليشياوي حقير يرتدي بذلة ويتصدر الاعلام ويركب سيارة محملة بالمتفجرات ليفتن بين السنة والمسيحيين في ااشمال اللبناني كاهن الظلم هذا لو غمس يده في هذه اللحظة في نهر الاردن لحوله الى دماء كاهن الظلم هذا صلب (الله) وبارك الصرافين وكهنة المعبد الفريسيين وباءعي الحمام دمنا عليه في سوريا دمنا عليه في لبنان دمنا عليه يوم تاتي قيامة الله بالثار العظيم بعد فصل كان المجد فيه للارهاب واسم الله يستعمل اجيرا ووزيرا لاعلام الظلم ومنحه البركة انه زمن النذالة والبشاعة والقباحة هل تعلم يا الياس بخير انا اذ عرفت الله قبل داعش وقبل كاهن الظلم هذا وقبل غدر الدين حسون لا تجزع فلكل فرعون سحرة ووزراء تلميع وبركة عذا يرش ماء العماد وذاك يصلي العيد على جثث اطفال مسحت ملامحها كدمى ممزقة يوم العيد مع قاتلهم ويخبرنا انه راى حافظ الاسد في الجنة تكاد جارتي الاخت لثمانية شهداء تجن ترفع بصرها الى السماء تقول لي يا الله خايفة بس ما يتوب بشار الاسد ! والله يسامحه يا الله معقول بشار يتوب اكون في بكاء واغرق في الضحك من شر البلية على بساطتها لا تاب الله على الظالمين ولا غفر الله لهم تعلمت سورة الفاتحة يا استاذ الياس نقول نحن المسلمين فيها اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين انعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين فالضالين لم يعرفوا الحق فتاهو والمغضوب عليهم لم عرفوا الحق وبلعوه ودفنوه ومشوا في جنازته فهل كنا نستعيذ بالله من الهة هؤلاء المغضوب عليهم والضالين لم اكن اعلم ان علي ان اقول اعوذ بالله من السلطان الرجيم وان اختم الفاتحة اهدنا الصراط المستقيم صراط الضحايا والمظلومين من اجل كلمة الحق في وجه الفاجرة غير المغضوب عليهم من كاهن سماحة الى كهنة داعش الى كهنة ااسيسي الى غدر الدين حسون ولا الضالين من ميليشيات التسبيح الاعمى بالهة الطواءف امين !
    غاضبة !

  3. يقول بهية الجزائر:

    سيد الياس خوري لا تتعجب فانه عصر المافيا. المافيا تمكنت من رقبة العالم ولن تتركه حتى تمتص دمه لآخر قطرة. سيكون دورنا اما ضحايا او مشاهدون. اهم شيء لا يجب ان نفقد أعصابنا ونتقبل ما يحدث بهدوء وأثناء ذلك ندعوا الله ان يخلص العالم ويخلصنا.

إشترك في قائمتنا البريدية