الجزائر: لماذا وصلنا إلى هذا؟

(1) عصر السبت 13 آب (أغسطس) الماضي: في طائرة الخطوط الجزائرية المتجهة من الجزائر العاصمة إلى برشلونة الإسبانية.. رجل في أواخر الثلاثينات، وزوجته وولداه، يتقدمون باحثين عن أرقام كراسيهم. إحدى المضيفات تقترح على الولدين الجلوس «هنا» لأن كرسيَيهما مكسوران! يجلس الولدان مبتهجيَن وفي الكرسي الثالث والدتهما الأجنبية. بعد لحظات تصل سيدتان مُنحتا الكرسيين المشغولين. تطلب إحدى السيدتين من المرأة الأجنبية إخلاء المكان فلا تفهم تلك شيئا من اللغة. تكرر الطلب فلا استجابة، ثم تصرخ في وجهها: مدااااام نووووضي!!
يحتج الزوج بأدب فتستلمه السيدتان بسيل من الشتائم قلّ نظيرها: باين عليك حيطيست موسخ.. عشت شهرين في لالمان جاي تذلنا! تفوه عليك! ثم مزيد من الكلام المهين والوعيد من قبيل: «أنت ما تعرفنيش.. يجيك راجلي يدكك في الحبس حتى ترشى»! (أنت لا تعرفني.. سيضعك زوجي في السجن حتى تتعفن).
كنت أقرب ركاب الطائرة إلى المتخاصمين، فشعرت بالشفقة عليهم، لكن أيضا على مجتمع فقدَ صوابه وتفوق في لغة التهديد والوعيد. مَن تمكن من صاحبه أبدع في إذلاله، والأداة هي الأسطورة لأنه مجتمع يحب الأساطير. قلت في قرارة نفسي أن اللواء توفيق مدين مدير المخابرات السابق فهمَ المجتمع جيداً فبنى لنفسه أسطورة جعلت الجزائريين يلقبونه بـ»رب الدزاير» ويهددون بعضهم بالمخابرات: من أراد ترويع الآخر في خلاف مروري، أو قضاء حاجة إدارية أو مصلحة معلقة، أوهمَ الموظفين والذين من حوله بأنه ضابط مخابرات.

(2)

في الأسبوع الذي أعقب واقعة الطائرة والكرسي المكسور، أوردت صحف جزائرية تقارير عن مستشار سابق في رئاسة الجمهورية قتل مواطنا جزائريا ببلدة ساحلية غرب العاصمة. السبب أن الضحية ركن سيارته بطريقة قيل إنها عرقلت مرور المستشار السابق إلى مسكنه الصيفي. بعد ملاسنة سريعة أخرج الأخير مسدسه وقتل الرجل الذي كان يشحن أغراضه في السيارة مستعداً للعودة إلى لندن التي يقيم فيها.
بأي حق يحتفظ موظف سابق في الرئاسة بسلاح ناري بعد تخليه أو إبعاده عن المنصب؟ وأي جرأة تسمح له بقتل رجل أعزل بالرصاص أمام أولاده الصغار؟
استعمال السلاح في هذه الواقعة (وغيرها) عنف مادي هو المرحلة النهائية من عنف آخر انتشر في المجتمع. عنف لفظي وفكري وروحي. نجا المجتمع الجزائري من العنف الديني، لكنه سقط في فخ العنف الروحي. ونجا من التعصب الطائفي فسقط في العنف الفكري. المجتمع غارق العنف، بكل أنواعه، بشكل يومي حتى تآلف معه. الجميع يعنّفون الجميع إلا من عجز.. عن وعي وبلا وعي. المعنَّف والمعنِّف سواء، اليوم تُعنَّف، غداً تعنِّف!
العنف الذي يسكن عقول وقلوب الجزائريين ترعاه بالدرجة الأولى مؤسسات الدولة في مستوياتها المختلفة، ببيروقراطيتها وعقمها وعدوانيتها (الناطقة والصامتة) تجاه الفرد. وترعاه وسائل الإعلام التي تفيض يوميا بأنهار من العنف كفيلة بتدمير المجتمع أكثر مما تفعل القنابل والصواريخ.
عندما أخرج المستشار الرئاسي السابق سلاحه في وجه الرجل الأعزل، فهو كان يعبّر عن ثقافة منتشرة منتهاها: ممنوع التطاول على الأسطورة! رجل بسيط في بلدة منسية في ريف متيجة تطاول على موظف رئاسي سابق ـ حتى لو لم يعرف هويته ـ فدفع حياته ثمنا.

(3)

أهنئ تونس وأرفع القبعة للتونسيين. أقول هذا لأن المسؤولين التونسيين الذين لا يمل مواطنوهم من انتقادهم، يمنحون الجزائريين الفرحة ويفرجون عنهم كربهم، و»يستنزفون» مداخيل الجزائر أمام أعين قادتها.
الموضة اليوم بين الجزائريين هي قضاء بعض من إجازة الصيف في تونس. تونس الشقيقة تمنح الجزائريين المغبونين ما يحرمهم منه عنف حكوماتهم وسياساتها: حقهم في قضاء أيام من إجازة الصيف في منتجع محترم نظيف بميزانية في متناول اليد.
أجزم بلا تردد بأنه لا يوجد جزائري في مدينة كبرى أو متوسطة لم يسمع عن أو لا يعرف عائلة واحدة على الأقل قضت عطلة صيف هذا العام في تونس. شخصيا أعرف شبانا في عمر المراهقة لا يجرؤون على الاقتراب من منتجع شيراتون بالجزائر (المخصص لعلية القوم) أهداهم أباؤهم ما مكّنهم من قضاء عطلة في حمّامات الياسمين بتونس في ظروف لا تختلف عن شيراتون الجزائر!
عشرة ايام في منتجع بالحمّامات تكلف شابا جزائريا أقل بقليل من 50 ألف دينار (حوالي 400 دولار). أي راتب شهر لموظف متوسط، مشمولة النقل براً والمبيت والأكل مرتين، مع الاستمتاع بكل مرفقات المنتجع.
لا أعرف كيف حسبها القائمون على السياحة في تونس وكيف تربح الفنادق إذا كان سعر خدماتها يقل عن 40 دولارا لليلة الواحدة. لكن الأمر لا يخلو من ذكاء إداري واضح.
عندما ضُربت السياحة في تونس متأثرة بهجمات إرهابية متكررة، راهن المسؤولون التونسيون على السائح الجزائري ووفقوا. درسوا نفسيته ففهموا أنه: قريب جغرافيا، متواضع ماديا، ليس ملحاحا ولا كثير الطلبات، أبواب المغرب والغرب ليست في متناوله، متآلف مع الإرهاب ليس شديد الخوف منه مثل السائح الغربي.. إلخ.. ومن هذه الخلطة استخرجوا ناعة اسمها: السياحة الجزائرية!
يا شعب تونس: إذا كان مسؤولوكم بهذا الذكاء وكرهتموهم، فبالله ماذا يجب أن تكون مشاعر الجزائريين نحو حكامهم؟

٭ كاتب صحافي جزائري

الجزائر: لماذا وصلنا إلى هذا؟

توفيق رباحي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول مسينيسا:

    العنف الجزائري نتائج الدمار والخراب النفسى والمعنوى لسياسة الارض المحروقة للتسعينات “كل شيئ كان مدروس لتخريب البلد” الله المستعان

  2. يقول احمد السيد:

    مقتطفات رائعة
    فأما الطائرة والنسوة فهي مسألة التربية اولا والاخلاق فالمرأة الجريئة التي تحجز في الطائرة وتصرخ وتسب وترفع صوتها اعتقد انها ليست هي المرأة الجزائرية في الواقع ولو اننا لا ننفي وجود هذه الكائنات لكن كإستثناءات
    اما المستشار الذي قتل شخص اعزل احيلك الى من قتل رئيس الشرطة في مكتبه وامام الملأ وفي وضح النهار. هل سمعت عنه شيئ ؟
    اما سياحة تونس فالنظام الجزائري وزبانيته فلو استطاعوا لقطعوا عنا الهواء ايضا وليس سواحلنا فقط والنظام اصبح يهدد الدولة والشعب ويشكل خطر على الامن العام. حتى جوازات الحج سرقوها من المواطنين . لكل فرعون موسى والشعوب اليوم واعية تماما ما يحدث لأنظمة تتماهى وتشبه الى حد بعيد لاستعمار. رؤساء ملوك سلاطين اختلفت الاسماء لكن السلوك واحد

  3. يقول الكروي داود النرويج:

    ” نجا المجتمع الجزائري من العنف الديني، لكنه سقط في فخ العنف الروحي. ” أهـ
    وهل سبب العشرية السوداء العنف الديني أم العنف العسكري ؟
    الإسلاميين فازوا بالإنتخابات بلا عنف
    ملاحظة :
    نعم كانت هناك ردات فعل من إسلاميين غير منضبطين إنتقاماً مما أصابهم من العسكر, لكنهم قلة
    أما العسكر فقد كان يقوم بمجازر بالفؤوس بقرىً قريبة من ثكناته ويلصقها بالإسلاميين
    ولا حول ولا قوة الا بالله

  4. يقول سمير فرنسا:

    يجب غلق الحدود مع تونس لكي لا يتاءثر المواطن بتنمية و ديموقراطية تونس و ربيع تونس و ما وقع في تونس ليس مؤامرة و ما سيقع في الجزاءر فهو مؤامرة خارجية و قصة داعشية و اما السلم و الفقر او عشرية سوداء من قبل عسكر معتوه

  5. يقول محمد حسنات:

    السيد توفيق، ما رصدته في مقالك من ظواهر ثلاث،يمكن أن تجدها تتكرر في معظم مجتمعاتنا العربية، لعلها تعكس أزمة في،
    التربية والتعليم، الثقافة ،والسلوك المدني الحضاري، فالفردية طاغية ،وإحترام الآخر وحقوقه غائبة،ما العمل؟!..ربيع جديد آخر.

  6. يقول بولنوار قويدر-الجزائر-:

    السلام عليكم
    ليس كل خروج عن التربية والأخلاق هو صفة مستدامة عند شعب من الشعوب تقول الحكمة: الشاذ يحفظ ولا يقاس عليه…
    ومن خلال ما ذكرت لنا من شطحات صادرة من لدن فئة لا تمثل إلاّ نفسها وهي البشاذ الذي لاينبغي أن نقيس عليه أخلاق الجزائريين وثقافتهم وموروثهم الوطني الذي قدم من أجله النفس والنفيس من أجل أن نحيا حياة طيبة هنيئة مسالمة بغض النظر على بعض الطفرات التي تحدث هنا وهناك سواء في المجتمع العربي أو الغربي وأنت تعرف أكثر منّا ما يحدث في بلاد الغرب من سفك للدماء وتعنيف وعنف وطبعا هذا ليس مثال يعمم على بقية الشعوب منها المثالي ومنها دون ذلك …وهذا ليس دفاعا عن المرأتين بل نعتبر ذلك نقطة سوداء في برنوس أبيض ناصع…وخير دليل أنّ زوج تلك المرأة جزائري وقد واجه الأمر بكل أخلاق ولطف وهذا دليل على تصرفنا الحقيقي…
    أمّا السياحة فهذا ديدان قد أفسده وأفلسه الجزائريين بأيديهم لنا شواطئ عذراء مناطق خلاّبة من القالة إلى مغنية ومن الجزائر إلى تمنراست ولكن تهافت التهافت جعل من الحج إلى تونس “موضة” لإفلاس ما جمعه خلال سنة وهذا عيبنا وليس عيب آخر وإن كان ولابد أن نلوم نلوم أنفسنا أولا…
    صحيح الخواص والمستثمرين لم يعرفوا للسياحة مجالا والعلة أنّهم يحبون الربح السريع ودون إبداع أو إنفاق لذلك ضربت السياحة في الصميم…
    امّا قولك:(نجا المجتمع الجزائري من العنف الديني، لكنه سقط في فخ العنف الروحي. ونجا من التعصب الطائفي فسقط في العنف الفكري…)ا.هـ الإقتباس
    أمّا العنف الديني لم يكن أبدا فالمتتبع للحركة الإسلامية في الجزائر منذ العهد الغبر إلى يومنا لم تكن جاءت للفتنة أو للعنف بل كانت ومازلت تدعو بما أمرها الله والرسول ومن حولها ووصفها بشتى الأسمى وكان العصا الذي وضعت في عجلتها هم أعداء الأسلام والمسلمين …زيادة على ذلك لم تعرف الجزائر عنف طائفي أبدا والتاريخ سجل لاتمحوه الأيام وإذا قصدت أحداث غرداية فعد إلى جذورها نجدها من لم يحب للجزائر الإستقرار والتعايش مع إخواننا الذي نعيش معهم منذ قرون إخوة على سرر متقابلين…
    ولله في خلقه شؤون
    وسبحان الله

  7. يقول ABDOU:

    انا عن نفسي عشت مواقف كثيرة من هات الشاكلة نحن بالجزائر اصبحنا حقارين نعم للاسف نحن حقارين الا قلة وهي استثناء لا يكاد يرى انتشرت بيننا هاته الافة بشكل يهدد كيان الامة انا حديثا ركبت في حافلة وكانت غير مملوءة كنا ننتضر كانت هناك فتاةبعمر حوالى 5 من اللجئين الافارقة كانت تتسول من الركاب والمارة كان في الحافلة امراة سنها حوالي 35 مع ابنتها بعمر حوالى 5 وكانوا جالسين داخل الحافلة وكان هناك رجل معهم ولكنه كان خارج الحافلة عندما همت تلك اللاجئة بالدخول في الحافلة بقي يعترض طريقها ويقول لها بوكوا حرام وهي ترفض ويعيد عليها هذا النعت ومن ثم دخلت لم يعطوها الكثير ولما همت بالنزول قالت لها المراة الكبيرة -مكان والوا – وبقيت تضحك عليها هي وبنتها الشابة ولما خرجت تلك اللجئة انطلقت ابنتهم اليها وعنفتها وضربتها امام ابيها وتلك النسوة وهم يضحكون عليها انا اعرف ان كلتا الفتاتين بريئتين لا تعلمان شيءما ازعجني هو احتقار الام الكبيرة وبقائهم يتفرجون على بنتهم وهي تعنف في تلك اللجئة انا لم ادري كيف تكلمت قلت لهم لما تعلمون اولادكم على احتقار الناس وتعنيفهم هاته ليست تربية هي جريمة بغض النضر من هو الضحية استدارة تلك الشابة ولم تترك كلمة ولم تقلها لي ثم اراد ذاك الرجل الدفاع عن نسائه وقال لي الا تستحي فتكلم امراة انا لم اكلمها وحتى لا ادري ما حشرني في الموضوع ثم قال لي انتم لستم عباد لو انكم عباد ما تتركونها تدخل الحافلة ممكن ان تاتى بمرض وكانه هو نزل من الجنة اليس ممكن انه هو كذالك مريض انا لم اتبع معه نزلت من الحافلة يا ترى لو ناخب كلتا الطفلتين الى الطبيب ويؤكد ان اللجئة لا تحمل عدوى وانا بنته هي من تحمل عدوى هل يقبل ان تنزل من الحافلة يبتعد بها عن المجتمع

إشترك في قائمتنا البريدية