مثلما تقبل غيومُ الخريف الأولى، أو يتكسّر رعدٌ على حافة أفقٍ بعيد. هكذا تقبل القصيدة أحياناً، متأجّجةً غامضةً، لا ملامح لها، تدفع الشاعر أمامها وكأنها ليلٌ واسع. ثمّ يستمر هطولها الكثيف: سيلٌ هائجٌ لا أتبين اتجاهه تماما، يوقظ في طريقه آلاف الطيور والأنهار الخرساء. وما إن يبلغ هذا التشابك أقصى مدياته حتى تهدأ النارُ، ويصفو اللهبُ، وتتجلّى ملامح النصّ.
ولا أظنّ أن أحداً يستطيع التنبؤ بسلوك القصيدة، فهي طفلة الروح المنفلتة من مملكة الإناث جميعاً. لها سطوة النوع وجبروت اللغات المندرسة والحية معاً. تأتي أحياناً رخيةً مثقلةً بالوعود، وتأتي غالباً على هواها، منتصرةً على استراتيجيات الشاعر وجداوله المخيّبة للآمال. وفي القليل النادر تحقّق له شيئاً يسيراً من أوهامه المهيبة.
ولغة شاعرٍ ما، لا تعني معجمه الشعريّ فقط، فالمعجم مادة البناء المتاحة، والعدّة المركومة جوار المبنى، أما اللغة الشعرية فهي قدرة الشاعر على استدراج هذا الحاصل اللغويّ المتاح للجميع إلى أن يكون مادته هو شخصياً في تشييد هذا الكيان الشعريّ تحديداً، وبطريقةٍ خاصةٍ، ووفق عاداتٍ وخفايا لا يدركها أحدٌ يقف خارج روحه.
ولكن هل تأتي اللغة هكذا، مبرّأةً من التأمل في الحياة أوالإحساس بها؟ ناشفةً كأحجار الشطرنج وملساءَ مثل خرز المسبحة؟ ثمة مجافاةٌ واضحةٌ لشروخ الذات وتفجعاتها في الكثير من نصوصنا الشعرية. قد تقرأ القصيدة، أحياناً ، فلا يعلق بروحك أو ضميرك وجدانٌ ما: ندمٌ، أو شهوةٌ، أو خذلانٌ، أو رفضٌ، أو يأس. وكأنّ النصّ خارج اصطدام هذه الانفعالات، أو بعيداً عن هبوبها القاسي غالباً. وتسأل نفسك أين يقيم هذا الشاعر؟ وأيَّ روحٍ محصنّةٍ ضد الكسر يحمل؟ بل أيَّ ضميرٍ لا يطاله الإحساس بالكارثة؟
وللقصيدة الحق في أن تتجاوز دلالتها المحدّدة الى دلالةٍ مخاتلةٍ، تنسلُّ من رؤيتها الواضحة إلى رؤياها الغائمة. حين تتصل القصيدة بالرؤيا لا يظلّ النصّ عرضةً للفهم الضّيق أو التفسير الخاطئ، بل ينطلق في فضاءٍ من الإحساس، فالقصيدة، في الغالب، لا تكتب كي تفهم، لأن الفهم شرط العلم. أما شرط القصيدة فأنْ تُحَسّ، وأن تُعاش، وثمة نصيبٌ فيها لكلّ حاسةٍ من حواسنا،. إن القصيدة التي نفرغ منها في قراءة واحدة قصيدة مشكوك في قيمتها، في الغالب، إلاّ إذا أريد لها أداء وظيفة ظرفية عابرة تستمد منها قيمتها المؤقتة.
لا أنظر إلى قصيدتي باعتبارها مِلْكِيّةً خاصة لا شريك لي فيها. أبداً، إن شركائي كثيرون. شريكي فيها تراثٌ إيقاعيٌّ ولغويٌّ يعصف في الطبقات السفلية البعيدة من حواسي ومن روحي، وشريكي فيها ذاكرةٌ مزهوّةٌ بخزينها المتّقد، وشريكي فيها قارئٌ مؤهّلٌ، ثقافياً وفنياً، يندفع بالنصّ إلى تعدّد دلالاته وتشابكها.
والدلالة التي أعنيها هنا لا تنبع من أفكارٍ مجرّدةٍ، تستلقي على سريرها مغمضةَ العينين، بينما ينام الأطفالُ هامدين تحت أنقاض مدنهم المهدّمة وعيونهم مملوءةٌ بالتراب والدم اليابس. دلالة القصيدة تنبثق من وجع الشاعر. من نارٍ تأكل أطرافه. من نومٍ يتعثر في الطرقات، بحثاً عن سريرٍ يلمّ جسده المتناثر .
لا أريد للقصيدة أن تكون كيساً لجمع الأفكار، فالأفكار المعزولة عن الجلاد أو الضحية، عن البهجة أو اليأس، عن المغنين أو الغرقى تكون مفسدةً للنصّ في الغالب. لا بد، إذن، من تجربةٍ تهَبُ الفكرةَ المجردة حسيتها الصلدة. ولا بد لها، أحياناً، من خيطٍ روحيٍّ مجروحٍ يكسبها نكهة الفجيعة وارتباك الكائن الحيّ.
هذه المقالات أفكارٌ واقتراحاتٌ وتأملاتٌ في القصيدة وحولها وقريباً منها. أطرحها على أصدقائي جميعا. الفعليين والمفترضين، على كل من تربطه بالشعر قرابةٌ حميمة، شاعراً أو ناقداً أو متلقياً. الشاعرالراسخ، والشاعرالمبتدئ بقوة، والشاعر الذي يقف على خطّ الشروع، بعد أن أنهى فترة إحماءٍ شعريّ ضروريٍّ، ليبدأ هذا الطريق الحافل بالجمال والمكابدة. وأطرحها أيضاً، وبشكل أساسيٍّ ربما، على القارئ الذكيّ الذي لا تكتمل القصيدة بدونه.
٭ شاعر وكاتب عراقيّ
مقدمةُ كتابٍ لي يصدر قريباً بعنوان: الحلم والوعي والقصيدة، مقالاتٌ في الشعر وما يجاوره ..
علي جعفر العلاق
لا أنظر إلى قصيدتي باعتبارها مِلْكِيّةً خاصة لا شريك لي فيها. أبداً، إن شركائي كثيرون. شريكي فيها تراثٌ إيقاعيٌّ ولغويٌّ يعصف في الطبقات السفلية البعيدة من حواسي ومن روحي، وشريكي فيها ذاكرةٌ مزهوّةٌ بخزينها المتّقد، وشريكي فيها قارئٌ مؤهّلٌ، ثقافياً وفنياً، يندفع بالنصّ إلى تعدّد دلالاته وتشابكها.
وهذا اعتراف شعري جميل …
ما ألّذ وامتع ما كتبت هنا ايها الشاعر العزيز على قلوب محبي الشعر وصوره الفنية الأنيقة.. القصيدة تخرج من تلافيف دماغ فيه الفكرة والأحساس واللهفة لقول الحقيقة قبل فوات الأمان.. القصيدة سباق مع الزمن.. والشاعر كذلك المتسابق في سباق البريد ركضا.. لا يسلّم عصا القصيدة الاّ عندما يدرك أن هناك من سيحملها ويقبض على جمرتها بقوة حتى يصل خط النهاية.. خط الأمان.. يا له من أمان لذيذ..