تنكّبت موجة الإنتفاضات العربية المتسلسلة لعام 2011 بجملة من الأوهام، وعانت بالمقدار نفسه من نقص فادح في الخيال.
الوهم الذي تقدّم جميع الأوهام هو الإتكال على «المخاض الدائم»، وإعتبار أنّ الجماهير ستقف من الآن فصاعداً متأهّبة بنفس الوسائل، وبنفس الأمكنة، لتقويم كل إعوجاج وقطع الطريق سريعاً على كل شروع في الطغيان. بلغ الوهم ذروته في تموز/يوليو 2013 مصريّاً: إعتبار أن الخروج الكبير الثاني للجماهير، هذه المرّة بمعيّة العسكر، للإطاحة برئاسة محمد مرسي، من شأنها أن تعبّد السبيل لخروج ثالث في حال تعنّت العسكر وصادر السياسة. الخروج الثالث لم يحصل بطبيعة الحال، إلا إذا اعتبرنا التظاهرة للتفويض بفضّ اعتصام رابعة من جهة، أو اعتصام رابعة من جهة ثانية، بمثابة مثل هذا الخروج، وهذان حدثان «جماهيريان» بطبيعة الحال، رغم طبيعتهما التناحرية و«الموضعية» أو الجزئية، إلا أنّ حصيلتهما المنطقية المساهمة في قطع الطريق على كل حراك جماهيريّ فاعل جديد وبشكل مزمن، أقلّه خمس سنوات حتى الآن في مصر.
الوهم نفسه، وهم التأهّب الجماهيريّ، تملّك المعارضين السوريين أيضاً: ظلّوا لسنوات يمنّون النفس بأنّ المسيرات الشعبية على غرار أشهر الثورة الأولى، لا تنتظر سوى وقف إطلاق نار حتى تهبّ مجدّداً. هذا كان صحيحا في وقت سابق، لكنه لم يعد كذلك منذ وقت غير قصير.
الجماهير ليست غبّ الطلب! التعبئة الجماهيرية الدائمة وهم قاتل، وهو في الأساس وهم ورثته «ثورات 2011» عن الأنظمة الجمهورية التقدمية العربية التي قامت قائمتها في مرحلة ما بعد إنكفاء المستعمر الأوروبي. ورثته نخب «الربيع العربي» بشكل مضاعف، لأنّها توهّمت أيضاً بإمكان فصل وهم التعبئة الجماهيرية عن الأنظمة التي قالت به وتسمّت ديمقراطية شعبية في حال سوريا، أو ديمقراطية مباشرة في حالة ليبيا، أو اكتفت بالتحول الديمقراطي، وأسطرة جماهير 7 تشرين الثاني/نوفمبر 1987، في حالة زين العابدين بن علي في تونس، أو أبقت على مفهوم «تحالف قوى الشعب العاملة» حتى في زمن حسني مبارك. باستثناء الجمهورية اللبنانية، قامت كل فكرة الجمهوريات العربية الأخرى على خرافة التعبئة الجماهيرية الدائمة، وعلى كون هذه التعبئة بمثابة الضمانة الوجودية الأساسية للشعب، ولما كان الأمر بهذا الدرجة العالية من الخطورة وجب إيداع هذه الضمانة في أمانة التنظيم الطليعي، وبخاصة في أمانة ربّان السفينة, «الرئيس القائد». حاولت «أيديولوجيا الربيع العربي» أن تستبقي من كل هذا خرافة التعبئة الجماهيرية الدائمة، أي أن تفصلها كضمانة وجودية مجتمعية أساسية عن غرفة أمانات الطليعة والزعيم. أخذت النخب المشاركة في صناعة «أيديولوجيا الربيع» تجمّل بوابل من الأوهام عناصر الخلل والوهن، معتبرة بالأخص أنّ أزمة التنظيم والقيادة والنظرية في حركة الإنتفاضات العربية هي فأل خير، وبركة، ودليل على التعافي من الأيديولوجيات الشمولية والمنقرضة، ومجاراة لروح العصر، وإقتباس خلاق لربيع شعوب أوروبا الشرقية والوسطى نهاية الثمانينيات، وأنّ الجماهير صارت تمتلك من الآن فصاعداً طاقة دفع ذاتية، و«الدليل الأمضى» الذي أعطته بعض النخب لذلك هو أنّ الجماهير وبعد عام على إنتخاب محمد مرسي كرئيس للجمهورية بالإقتراع العام المباشر، رأت فيه إعوجاجاً تسلّطياً فقوّمته بـ«آغورا الملايين»، وإذا كانت هذه الحركة الشعبية لا يمكن أن تختزل بأي شكل كان في مجرّد مواكبة للإنقلاب العسكريّ، إلا أنّها غذّت الكثير من الأوهام يومها، بأنّ العسكر أنفسهم ينظرون إلى هذا المدّ المليوني الكاسح كإنذار مستقبليّ لهم إن هم تأخروا عن تسليم السلطة للمدنيين. هيهات!!
الجماهير ليست غبّ الطلب. لا تنزل إلى الشارع في أي وقت، وبأي شرط، ولا يمكن في نفس الوقت لأي علم إجتماع جماهيري أو علم نفس جماهيري ولا لأي تحليل سياسي أن يستشرف بدقّة متى تعود الجماهير إلى الميادين. الخطاب «الإستنهاضي» لها كثيراً ما يكون خطاباً يائساً، أما الخطاب الذي يرميها كجماهير بجريرة اليأس فهو خطاب ليس بمستطاعه إدراك الأهمية التحريرية لـ«اليأس»: فقط عندما لا يكون هناك «أمل» يمكن للمرء أن يقاتل بشكل عقلاني. إماتة الأمل بالتعبئة الجماهيرية الدائمة ليست أبداً بالشيء السيئ. سيئ بلا شك ما حدث من وأد لإنتفاضات الجماهير العربية، لكن الإدراك، ولو المتأخر بأنّ هذه الجماهير لم تكن نائمة تماماً قبل 2011، ولم تصبح مستيقظة بشكل متواصل ومطلق بعد 2011، هو الدرس الأوّل الذي يمكن، ويفترض تعلّمه، بعد كل هذه السنوات.
صحيح أنّ افتقاد انتفاضات 2011 لأي صلة وصل مع منطق «لا حركة ثورية بلا نظرية ثورية» هو مدخل أساسي لفهم عسراتها ثم هزيمتها الشاملة، إلا أنّه ما من نظرية ثورية يمكنها أن تحدّد مسبقاً متى تعود الجماهير إلى مركز الحركة.
تسمح اللغة العربية بالتمييز بين «الثوريين» و«الثوار». الثوريون، في مقال القرنين التاسع عشر والعشرين، ليسوا ثواراً، بل هم الذين يعملون لأجل تفجير الثورة حتى عندما تبدو ظروفها مستبعدة تماماً. حتى عندما تكون الجماهير في حالة كبوة شاملة، بل بالأخص في هذه الحالة. عندما تتبدّل الأوضاع، ويحصل إنفجار جماهيريّ، يصير هؤلاء ثوريين وثوارا في نفس الوقت، على رأس لفيف من الثوار «غير الثوريين» قبل إندلاع الأحداث. طبعاً، هذا التصوّر المرتبط بنموذج «المناضل الثوري» أكل منه الزمن الكثير، وهو مسؤول عن إنتاج أوهام جسيمة، ليس أقلّها صعوبة أن يعمل الثوريّون لأجل ثورة يتخيلونها بمواصفات معيّنة، فتأتي أخرى مختلفة إلى حد كبير عمّا رسموه وحلموا به. فإمّا يسقطون ثورتهم المتخيلة على تلك القائمة ويكابرون على الإختلاف، وإمّا يعادون تلك القائمة من موقع تلك المتخيلة ويكابرون على الواقع.
بيد أنّ تآكل نموذج «المناضل الثوري» كما عرفناه في القرنين الماضيين، لن يجعل من «الناشط» بديلاً جدّياً عنه. رغم تلفه بشكل عام كنموذج، يبقى لـ«المناضل الثوري» حكمة عدم الإتكال على التعبئة الجماهيرية الدائمة، أو على «عفوية الجماهير»، وحكمة حبّ هذه الجماهير في نفس الوقت. هذا بخلاف الناشط، المتذبذب بين الإيمان بعفوية الجماهير، وبكونها غبّ الطلب ساعة يحتكم هو إليها، وبين المسارعة لرميها بأنّها «استكانت» و«رجعية» و«حزب كنبة» ساحة لا تحمله على أكفّها.
٭ كاتب لبناني
وسام سعادة
تحليل جيد ومنطقي استاذ سعادة ولكن ما هو الاسيشراف المستقبلي لدول الربيع العربي في تونس هناك مخاض ديمقراطي مازال في طور التفاعل، في مصر عودة لديكتاتورية عسكرية مصرة على الاستمرار في السلطة والضرب بالمسطرة على أصابع الشعب، في سورية عودة مكبلة باستعمار جديد لنظام المجرم ابن المجرم بشار الكيماوي الذي سيكون اشد قسوة واكثر فتكا بكل من يرفع صوته، في اليمن إوار الحرب مازالت مشتعلة مع تدخل خارجي خليجي وحالة انقسام بين الجنوب والشمال، في ليبيا ايضا حالة انقسام بين الشرق والغرب ( بنغازي طرابلس), هل سنعود لنعيش تحت سيطرة البساطيل العسكرية لنصف قرن آخر
حبذا لو تستشرف لنا مستقبلنا في مقال مقبل
تحياتي