الجنون… الاستعمار… شبقنة اللباس: عوالم الجنسانية في يوميات بيروت الكولونيالية ودمشق الجديدة

أخذ العديد من المقاربات الإنسانونية تسعى في العقود القليلة الماضية، إلى إعادة قراءة مفهوم الجنس عبر تحريره من حالة الاختزال البيولوجية، لصالح رؤية تنظر إلى تاريخ الجنس بوصفه بناء اجتماعيا تاريخيا، لطالما عبر عن تداخل بين البيولوجي والنفسي والسوسيو- اقتصادي والثقافي والأخلاقي والديني.
وقد نتج عن تبني هذه الحرتقات الجديدة بروز مفهوم «الجنسانية» داخل الحقل المعرفي بدل مفهوم الجنس التقليدي، الذي بقي عاجزا عن احتواء القطيعة المعرفية والقيمية التي أحدثتها الدراسات الحديثة في حقل الدراسات السوسيو- انثربولوجية والنسوية، الأمر الذي نتج عنه، بحسب عالم الاجتماع المغربي عبد الصمد الديالمي، كما عبر عن ذلك في كتابه «سوسيولوجيا الجنسانية العربية» إلى الإقرار بأن «الجنسانية» ظاهرة اجتماعية كلية «بامتياز فهي تتركب من قضايا ومشاكل معقدة لا حصر لها، فالجنسانية إفرازات، هويات، علاقات، سلوكات، مؤسسات، وإعادة إنتاج قيم….». أي أن الجنسانية قبل أن تكون موضوع بحث علمي، هي أولا وقبل كل شيء ظاهرة اجتماعية تتضمن تفاوضا مستمرا بين الأفراد ومحيطهم الاجتماعي الثقافي، كما أنها تطرح بحدة أسئلة حول التاريخ والسياسات الصحية للدول الاستعمارية والحديثة، وكذلك أسئلة حول الهوية والاستهلاك، خاصة بعد ظهور مساحات عالمية أخذت تتخطى الحدود القومية، وتتجاوز الحداثة، لصالح الغارات الكاسحة لعمليات التسلية الجماهيرية، بكل تقنياتها البصرية والرقمية، وما نتج عنه من صراع حول القيم والمعاني الأخلاقية والجنسية، ودورها في صياغة هويات مجنسنة جديدة.
ضمن هذه المقاربة الجديدة يأتي كتاب «الجنس في العالم العربي» دار الساقي 2015، ترجمة أسامة منزلجي، تحرير كل من سمير خلف أستاذ علم الاجتماع في الجامعة الأمريكية في بيروت، وجون غانيون، الذي يعمل أستاذا فخريا لعلم الاجتماع داخل جامعة نيويورك، ليتفحص المساهمون من خلاله مفاهيم الذكورة والمخيلة والاستعمار والصحة الجنسية، ومسائل الهويات المثلية والحقائق المعاشة، كمدخل للبحث في أسلوب معايشة الأفراد والجماعات للدساتير الجنسية المتنافرة والمستندات الثقافية، ولانعكاسات الهويات المجنسة الجديدة على المستويين العام والخاص داخل الحياة التاريخية واليومية للمنطقة.

الحب والذكورة والجنون في بيروت الكولونيالية 1860:

في هذا السياق، يشرع ينس هايسن أستاذ تاريخ الشرق الأوسط في جامعة تورنتو- إلى استكشاف الأنثربولوجيا التاريخية للبنية الاجتماعية لمدينة بيروت، من خلال دراسة النشاط الجنسي والجندر والعلاقات الطبقية في بيروت نهاية القرن التاسع عشر. فقد شهدت المدينة في فترة الستينيات من القرن التاسع عشر بروز طبقة جديدة عرفت بأنها من البرجوازية المثقفة، بما أنهم تلقوا تعليمهم في مدارس تبشيرية مسيحية، خاصة الأمريكية والإنكليزية والألمانية، وأخذت هذه الطبقة الاجتماعية تظهر تأثيرا كبيرا، لأنها احتلت نظام الثقافة المحلي في بيروت، حيث كان للمدارس والصحف أثر هائل على الثقافة المدينية بعد عام 1860. ورغم محاولات مجتمع بيروت التقليدي العمل على «خصي» هذه الفئة الجديدة – وهي استراتيجة كانت شائعة في المجتمعات البرجوازية – بحكم الطريقة الغريبة لهم انذاك في الملبس والكلام والجلوس إلى الموائد واختلاطهم بحرية مع النساء، فإنها استطاعت أن تزعزع أعراف الجماعات التقليدية حول النظام الأبوي، بيد أن هذه الاختراق كان ينعكس في مرات عديدة بشكل سلبي على النساء والمراهقين، ولعل مصير نجلاء أرسلان التي تنتمي لعشيرة أرسلان في جبال الشوف المطلة على مدينة بيروت خير مثال على ذلك. فقد وقعت في حب قريب لها يدرس في الكلية اليسوعية (المضطرب عقليا بسبب ثقافته الحداثوية)، الأمر الذي أشعر والدها بمهانة شديدة بسبب جحود ابنته وتحديها لذكورته، من ناحية ولوقوعها تحت تأثير «حب مقلد للأساليب الأوروبية». وبعد عام من الاحتجاز في أعالي جبال الشوف انتشر خبر في بيروت مفاده، أن نجلاء تعاني من اضطهاد جسدي وعقلي، ليتم لاحقا تسليمها إلى أكبر مشفى للأمراض العقلية في اسطنبول، ولتختفي القضية في غياهب الأرشيف العثماني.

الجنس والاستعمار وولادة كليات الطب الحديثة:

لكن الجديد برأي هانس أنه خلال السنوات الخمس عشرة الأخيرة من القرن التاسع عشر للمدينة، أخذ مدخلا الطب والصحة العامة يوفران منفذا مهما للتدخل الاستعماري الفرنسي في الشرق. فقد كان تأسيس كلية الطب الفرنسية في جامعة القديس يوسف عام 1883 بمثابة مدخل للموظفين الفرنسيين إلى عالم السيطرة، من خلال إجراء استطلاعات الصحة العامة التي عكست حالة من القلق الاستعماري الفرنسي في بيروت، كما في التقرير الذي نشره الطبيب الفرنسي بنوا بوييه «أحوال العادات الصحية في بيروت» في ليون عام 1897. فقد عكس هذا التقرير المكون من 174 صفحة المخاطر الصحية والأمراض في بيروت وخارجها. وبحسب ميشيل فوكو كان هذا التقرير بمثابة أول تمثيل سياسي بيولوجي نظامي لبيروت مولع بالتكنولوجيا السياسية التي تدك أوجه الحياة الانسانية كلها – بدءا بنظام الحمية إلى عادات النوم، من التخطيط للمدن إلى التخطيط لإنشاء عائلة ثم ينتقل إلى مجال معرفة/ قوة الدولة، ويبرزها، ويعمل عليها، ويغيرها لصالح صحة المجتمع بأكمله.
ولذلك نجد بحسب هانس – أنه خلافا لمؤلفات العديد من المندوبين الأوروبيين الآخرين في بلاد الشام والشرق الأوسط عموما، فإن هذا التقرير لا يحتوي على صور لنساء شبه عاريات من «السكان الأصليين المنحطين» أو «النبلاء الغريبي الأطوار»، بل يحتوي على رسوم توضيحية لآلات تالفة مرمية «في وضعية فنية» ونظام صرف، ورموز المنزل «الصحي» وخريطة لمدينة بيروت. كما أن اللافت أن بوييه في هذا التقرير لم يكن مدفوعا برغبات شبقة ولا بغزوات جنسية على طريقة المستشرقين التقليديين، بل كان الاحتواء هي مهمته الشاملة: حاويات مختومة من البراز الإنساني، اعتدال المتع الإنسانية وعاهرات معزولات في مناطق يحرسها رجال الشرطة أمنيا ومنارة بالضوء الأحمر.
كما أن ما يثير الاهتمام أن بوييه يشبه في الفصل الخامس من كراسته «عن الأمراض في بيروت»، مرض السل بالهستيريا والإرهاق العصبي، حيث كتب قائلا» أن الإفراط في التناسل، والسهر الطويل ومناورات الاستمناء (العادة السرية) هي التي ترهق الشباب وتساعد على انتشار عدوى السل. وهذا هو ما يفسر سبب وقوع «الشرقيين» ضحايا للمرض وأيضا تعرض النساء يعود سببها إلى حد كبير إلى تأثيرات «الأخلاقيات الجديدة الأقل تشددا بصورة أو بأخرى، والانهماك بالأمور المادية والفساد الخلقي، الذي كانت النساء عرضة له لكي يشبعن نزوة أجسادهن». ولعل ما يثير- والكلام هنا للكاتب – أن بوييه – لم يصور تعرض جسد المرأة للكبت خلف الحجاب أو من تحت مشد الخصر، ولا سجن المرأة داخل سجون الحريم، كسبب أساسي للهستيريا، بل على العكس ويا للدهشة، المغالاة في الحرية والفراغ هما اللذان كانا يعرضان المرأة البيروتية للمرض.
من ناحية أخرى، نجد أن الهوس الذي يبديه بوييه بالسلوك الصحي والنظافة ما هو إلا تجسيد لقلق أعمق بشأن الصلة بين السكان المحليين والجاليات الأوروبية التي لم تعد مؤلفة من «الرواد» قناصل ومبشرين وتجار. فطبقا لإحصاءات قنصلية ارتفع عدد سكان المستعمرة الفرنسية وحدها من 600 إلى 1400 بين عامي 1891 و1897.
كما أنه خلافا للمدن الاستعمارية في شمال أفريقيا، لم يستقر الأجانب في بيروت في مدينة موازية صممت خصيصا بعيدة عن السكان المحليين. فالدبلوماسيون والقساوسة والأطباء ورجال الأعمال استأجروا طوابق أو أبنية كاملة من ملاك في مناطق سكنية مجاورة للمدينة القديمة، أو خلف الملاهي الساحلية ومناطق الفنادق، ولذلك نجد الفصل الخامس من كراسة بوييه، الذي ينتهي بمقطع عن «معدل الوفيات ونسبة الأمراض بين الفرنسيين» يعبر عن تنامي الإحساس بالهشاشة في المؤسسات الأجنبية في بيروت: ظهور الأجانب من غير النخبة، الذين يختلطون بالطبقات المحلية الدنيا ويشاركون في الممارسات الجنسية وفي جلسات شرب الخمر. وهذا يعيدنا إلى قضية الدعارة التي عرّفها بوييه بأنها مشكلة مدينية خطيرة، لأن المواخير الموجودة والمرخصة رسميا ليست معزولة بالقدر الكافي، ولا معينة بحدود تميزها عن باقي أنحاء المدينة. وهو ما أحدث قلقا عند أطباء الصحة الفرنسيين، الذين وجدوا أنفسهم على خط المواجهات الأول ضد انتقال الأمراض من آسيا إلى أوروبا. وقد شكل تشابك الجغرافيات للحياة الراقية والسافلة، والأحياء الأجنبية والمحلية والأعمال الأخلاقية واللاأخلاقية في بيروت، شكل مأزقهم بالذات، لأنه تحدى الفجوات السريرية التي يعتمد عليها التدخل العلمي وأيضا بالمصادفة، سياسة الهوية.
ويخلص ينسن من خلال قراءته لكراسة بوييه إلى نتيجة مفادها، أن هذا الاستطلاع بات يوحي بأن الأحاديث الاستشراقية حول مدينة بيروت قد انتقلت من الغزو الجنسي إلى المحتوى السلوكي، كما أن العادات الصحية الاستعمارية أخذت تكافح لتجاري النمو المتسارع للمدينة والتحول الذي هدد صحة الجالية، وهي مواقف شبيهة بمواقف النخب الذكرية المحلية. فقد شغل التحرر من القيود والحجز والهويات الجنسية الجديدة أذهان المختصين بالصحة الاستعمارية بقدر ما أقلق بال النخب الذكرية المحلية على قدم المساواة.

استراتيجيات العفة عند النساء الدمشقيات:

من جانب آخر، ترى كريستا سالامتندا
الحاصلة على درجة الدكتوراه من اكسفورد عن أطروحتها «دمشق القديمة الجديدة»، من خلال بحث ميداني واثنوغرافي بين طبقات النخبة في دمشق، أن مضاعفة أهمية الصورة بقي بمثابة الجائزة التي توضع لمظهر العفة عند النساء الدمشقيات (الشاميات بالتحديد) حيث يصبح مظهر النقاء من الناحية الجنسية شكلا من رأس مال الفتاة الشابة، وغيابه يمكن أن يكون مدمرا على آمالها في المستقبل، ويمكن أيضا أن يصبح ذخيرة للعائلات المعارضة كي تهاجم أعداءها. وحفاظا على رأس مال عفتهن كان ينبغي على الصبايا ألا يُروا وهن يختلطن بالرجال، خاصة في خلوة، اذا لم تكن هناك خطبة.
بيد أن الجديد هو أن الفتيات الشابات اللواتي يحظر عليهن الاختلاط بالشباب، أخذن يتبعن استراتيجيات الجذب عبر الاستعراض، فقد أخذت بعض المناطق التي تقع بين العام والخاص توفر أماكن لعرض النفس على الآخرين. مثلا، نادي العناية الصحية في حي أبورمانة هو مكان مختلط لممارسة التمارين الرياضية في حي يسكنه إلى حد بعيد أهالي الطبقة الراقية، نجد أن النساء القادرات على تكاليف الذهاب إلى هناك ينتقلن بسياراتهن أو بسيارة شخص آخر، ويتعمدن عدم المشي في الشوارع، حتى وهن مرتديات ملابس محافظة. ولكن غالبا داخل النادي يضعن مساحيق تجميل ثقيلة، ويرتدين الملابس الضيقة جدا والرقيقة. وبما أن دروس الحركات الرياضية تجري في منطقة خالية أمام آلات الأوزان والتمارين، ورافعوالأثقال وغالبيتهم من الرجال يمكنهم أن يراقبوا المؤخرات الملتوية، التي تبرزها بجلاء الملابس الضيقة والرقيقة، لنساء يتلقين دروس المحافظة على الرشاقة.
كما ترصد الباحثة من جانب آخر، مسألة الأزياء الجديدة بين النساء الشابات أو المتوسطات في العمر داخل المدينة، التي برأيها باتت تبدي ميولا في السنوات الماضية نحو نزعة جنسية أكثر وضوحا: الملابس الضيقة، الملتصقة بالجسم، وأحيانا التي تكشف الأخاديد، والألوان الفاقعة، ومساحيق التجميل الثقيلة، والشعر الطويل، والحذاء العالي الكعب. وهو ما تجد له تفسيرا، كون الفضاء الاجتماعي الجديد الذي بات يحيط بالفتيات غالبا ما تكون فيه الصور وليس الإنجاز هي التي تحدد المكانة، لذلك يكون الرهان على العرض عاليا. ويخضع كل جانب من جوانب مظهر المرأة للفحص الدقيق والتقييم من قبل النساء الأخريات. وخسارة رطل أو زيادته، وتجفيف الشعر بطريقة مختلفة، ولبس التنورة بدل البنطلون أو سماكة قليلة في رسم خط العين، كلها تثير التعليق: أحيانا، ولكن ليس دائما من باب المديح.

كاتب سوري

محمد تركي الربيعو

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية