الجهل باعتباره وجهة نظر مشروعة!

من منجزات الخيال السياسي الأنغلو ـ أمريكي أثناء العامين الماضيين أنه استحدث إعلاما لم تعرفه البشرية من قبل، هو إعلام «الوقائع البديلة»، ودشن عصرا جديدا ينقض مسار التاريخ الإنساني نقضا، هو عصر «ما بعد الحقيقة». ولهذا اختار قاموس أوكسفورد «ما بعد الحقيقة» باعتبارها العبارة المميزة لعام2016. وقد كان من أبرز نتائج هذه البدائل التي تتفوق على الوقائع وهذه البعديات التي تغني عن الحقيقة (!) أنه قد أتيح للتصويت الديمقراطي الحر والمباشر في عصر ثورة المعلومات أن ينتج كوارث حقيقية مثل طلاق البركسيت في بريطانيا وفوز ترامب في أمريكا.
ما هو التفسير؟ إنه انتشار الجهل وتمدده وازدهاره.
الجهل في عصر العلم؟ مقولة مثيرة عمل عليها وحلل مظاهرها أستاذ الفلسفة في جامعة غتيسبرغ الأمريكية دانيال دينيكولا في كتابه الجديد «فهم الجهل: الأثر المثير لما لا نعرف». ويتمثل منطلقه في القول بأن الصيغة الجديدة من الجهل لا تتوقف عند ما هو معلوم من إعراض الجمهور الامريكي عن كل ما هو فكريّ وحساسيته تجاه الثقافة التي يسميها الأنكلوساكسون الثقافة العالية ويسميها الفرنسيون الثقافة العالمة. لا يتعلق الأمر بمجرد موروث أمريكي من الحساسية ضد الفكر والعمق. بل تتمثل الصيغة الجديدة من الجهل في جهل يدركه أصحابه (الجاهلون) باعتباره جهلا صريحا واثقا من أمره، ويتمسكون به ويفاخرون به من حيث هو جهالة جهلاء.
صحيح أن التعليم منتشر الآن بأكثر مما كان في أي عهد مضى من عهود التاريخ الإنساني، وأن الوسائل الجديدة التي تيسّر التعلّم وتتيح التقدم في المعرفة غير مسبوقة في تنوعها وفعاليتها، وأنه صار لدى الإنسانية قدرات مدهشة على تخزين المعلومات والنفاذ إليها وتوزيعها. ولكن رغم ذلك، فإن الجهل اليوم في نمو وازدهار. ويوضح دينيكولا أن الجهل الذي يقصده ليس الجهل الملازم للمنزلة الإنسانية (والناجم عن هشاشة وضع الإنسان إزاء أسرار الكون والنفس والمجتمع)، والذي يعالج بأناة البحث الدؤوب المفضي إلى دهشة المعرفة وفرحة الاكتشاف. بل إنه يقصد ما يسميه الجهل العمومي، أي الجهل، على أوسع نطاق، بأمور ذات أهمية بالنسبة للعيش المشترك، أي إدارة الشأن العام والتنظيم السياسي للمجتمع. وهذا الجهل المعيب قابل للمحو، ولكن معظمه من صنع أصحابه، أي أنه جهل حاصل بقرار واع وقصدية مضمرة. ويكون في معظم الأحيان مستندا إلى معرفة زائفة (مثل نظرية المؤامرة)، أو تحيزات أو امتيازات أو إلى وعي ايديولوجي.
سئل دينيكولا أثناء محاضرة ألقاها الأربعاء في لندن بمناسبة جولة ترويجية لكتابه في بريطانيا إن كان يرى أنه محقّ في التقابل الضمني الذي يقيمه بين الصواب والخطأ، بين المعرفة والجهل، بين الحقيقة والباطل. فأجاب بأنه يعترف بأن مفهوم الحقيقة قد يكون محدودا في بعض مجالات البحث، وأن صلاحية المفهوم قابلة للمساءلة وأنه قد يكون غير ذي موضوع في بعض الحالات. كما ذكّر بأن بعض الخطاب الأكاديمي والسياسي في أمريكا قد حمّل اليسار الجديد وموجة ما بعد الحداثة وزر إضعاف مفهوم الحقيقية من شدة الإفراط في القول بالنسبية الثقافية. وأكد أن وضع الجهل في المجتمع الديمقراطي وضع إشكالي قديم منذ عهد أفلاطون الذي كان يبالغ، حسب قول دينيكولا، في تقدير الخبرة والمعرفة إلى حد تحويل العارف الخبير إلى طاغية.
على أنه أشار إلى خصيصة من خصائص الديمقراطية الليبرالية قد تكون هي الأصل البعيد لانتشار الجهل، لا باعتباره جهلا بل باعتباره وجهة نظر (!)، وهو أن فكر التنوير قد قام على أساس تثمين استقلالية الفرد (مقولة كانط الشهيرة عن التحرر، بالتفكير الفردي والإرادة الذاتية، من وضع القصور والاعتماد على الغير) وسيادته على نفسه وحياته، بحيث أن الديمقراطية الليبرالية ظلت تلاقي صعوبة في تقبّل السلطة، سواء كانت سياسية أم دينية أم معرفية. ولهذا فإن جواب دينيكولا على سؤال مدى صلاحية وإجرائية مفهوم الحقيقة هو أن من يدّعون أن لديهم الحقيقة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها ليسوا طلاب المعرفة وإنما هم المتأدلجون، لأن المتأدلج يرفض النظر في أي من الحجج والبراهين التي تدحض معتقداته.
أما أكثر أنواع الجهل استعصاء فهو المعرفة الزائفة. ذلك أنه قد صار في وسع كل من يؤمن بأي خرافة، مهما كانت سخيفة، أن يجد في الشعوب والقبائل الفيسبوكية والتويترية آلافا ممن يشاطرونه الإيمان بها، فيصبح من شبه المستحيل أن يخامره الشك في مدى صحة معتقداته الخرافية.

٭ كاتب تونسي

الجهل باعتباره وجهة نظر مشروعة!

مالك التريكي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول mohamed el annababi algerie:

    very good thank you very good

  2. يقول ابن الجاحظ:

    المشكلة ليست الجهل….. بل ” تقديس الجهل ” ….

  3. يقول محسن عون/تونس:

    ذلك أنّ سياسة “الويلات المتّحدة”، رئيسة العالم “الحُرّ”، تكره الأحرار و سعت و تسعى لمحوهم من على الأرض أينما كانوا و بكلّ الوسائل – و في أغلب الأحيان الغير شرعيّة – التّصفية الجسديّة، الحصار الإقتصادي و الحروب التّقليديّة و النّوويّة. و الحروب التي شنّتها بمفردها أو تزيّنها ببعض “الدّول”، ما ربحت واحدة منها قطّ. تخرج منها بعد أن تدمّر البلاد و العباد من غير أن تحقّق أيّ هدف من الأهداف التي زيّنت به تدخّلها، بل تزيد الطّينَ بِلّة أغلب الحالات، تدخل لحلّ “مشكل عقيم مختلق” فتردّه خصب التّناسل في رمشة عين، و لا تبتعد عنه إلا بعد أن تطمئنّ عن سلامته و سلامة الأولاد (حضارة !) . و حروبها، حروب استعلاء و استكبار و عروض عضلات و تسويق أسلحة و مهارات. هيّ حروب عقابيّة تصبّ فيها كرهها و سمومها و ويلاتها و تردم فيها ترسانة خردتها. أفعى تتقيّأ خارج حُجرها. و التّحضّر عندها يقتصر على إعطاء إسما رومنطقيّا لكلّ غارة و لكلّ قنبلة ! و آخرها، حتى لا أطيل، “أمّ القنابل”. هل ضرّت أمٌّ ولدا ؟

  4. يقول S.S.Abdullah:

    عنوان ومحاور تحليل رائعة، رغم اختلافي 180 درجة مع ما تم طرحه، لماذا؟ فلسفة الجهل هو أسلوب حياة للموظف (شهادة الزور عن عمد وقصد) في دولة الحداثة وفق محددات سايكس وبيكو، من أجل أن يستلم راتبه آخر الشهر كاملا، والدليل ما حصل في 3/7/2013 في مصر، أو ما يحصل في دول مجلس التعاون للخليج العربي تحت مسمى توطين الوظائف على حساب الكفاءة والجودة والإنتاج، وبعيدا عن توطين الوظيفة نفسها، فحجة ديفيد كاميرون للفوز في انتخابات عام 2013 البريطانية كانت من خلال رفع راية الاستفتاء على الانسحاب من الاتحاد الأوربي، هو أن المواطن البريطاني لا يجد وظائف لها دخل جيد يكفي لإعالة أسرة بكرامة، سببه الأجانب من دول الاتحاد الأوربي، تماما مثل دونالد ترامب في تقليده (كالببغاء) للفوز بانتخابات أمريكا عام 2016 فيما رفعه من شعارات، أنّ عدم وجود وظائف ذات دخل يكفي لإعالة أسرة بكرامة سببه المهاجرين
    ما فات المثقف والسياسي وموظفي دولة الحداثة، هو أن العقلية الأمريكية (العولمة أو ثقافة الـ نحن للأسرة الإنسانية) تختلف عن العقلية الأوربية (ثقافة الـ أنا أولا ومن بعدي الطوفان) خلق أجواء للعمل بالسوق الحر شيء، وتوطين الوظائف بدون توطين الوظيفة كما حصل في دول مجلس التعاون بعد 2/8/1990 شيء آخر، وفي لغتنا نقول من مدح نفسه ذّمها، ثم هل هناك من يقول على لبنه حامض؟ مع أنّه لن يمكن صناعة اللبن إلا بتحميض الحليب، لأن في العولمة توطين الوظائف على حساب الكفاءة والجودة والمنافسة الحرة، هو سبب إفلاس وتقسيم الاتحاد السوفييتي عام 1991، ببساطة لأن ثقافة الـ أنا أولا (الوطنية) ومن بعدي الطوفان، كانت السبب في الحرب العالمية الأولى والثانية، ولهذا السبب بالذات كانت العولمة واقتصادها الإليكتروني لنشر ثقافة الـ نحن كأسرة إنسانية، من أجل رفاهية الجميع في سوق حر للتبادل التجاري، أساسه توفير منتج بأفضل المواصفات بأقل الأسعار، وإلا مصير الدولة الإفلاس كما هو حال اليونان منذ عام 2008، العنصرية الوطنية والتمييز الطبقي المصاحب لها، سيعمل على تدمير الاقتصاد، وتدمير حتى رؤية المملكة 2030 وأي جدوى اقتصادية لها بالذات، فدول مجلس التعاون للخليج العربي كانت جنة الأعمال عندما كان السوق حر فيها، ولا مكان لعقلية الجباية بدون تقديم خدمات مقابل ما تفرضه من ضرائب، في ذلك الوقت حتى دونالد ترامب كان يتمنى أن يكون مواطنا خليجيا، كما صرّح بذلك عام 88.

إشترك في قائمتنا البريدية