الجوائز العربية وجبر الخواطر

قال كاتب عربي صديق في تعليقه على قائمة إحدى الجوائز الأدبية العربية الهامة، إن هناك كتابا معينين يدخلون تلك القوائم ليس بسبب إبداعهم المستحق، ولكن جبرا للخواطر، وإن المحكمين غالبا لا يقرأون أعمال أولئك الكتاب الراسخين في الكتابة، بدليل أنهم يستبعدونها من المنافسة بعد ذلك ويفوز بالجوائز من يستحق نصه، حتى لو كان يافعا مغمورا يكتب للمرة الأولى.
أعتقد أن مثل هذا الكلام الذي يردد عشوائيا بلا دراسة لواقع الأمر، ولا أي دليل، ولا حتى شبهة دليل، يؤكد ما أحدثته تلك الجوائز في الوسط الثقافي من خلخلة، بمعنى أن لا شيء ثقافيا آخر أضحى مهما أو يستدعي الإشارة إليه أو تمجيده أو حتى ذمه باستثناء تلك الجوائز الأدبية. فكلما ظهرت جائزة، وهذا شيء أعتبره إيجابيا، بل ممعنا في الإيجابية، سارع البعض إلى ذمها والتقليل من شأنها ووصفها بصفات أخرى غير منصفة في الغالب. وبالرغم من ذلك نجد هؤلاء يشاركون فيها، إما عارضين لنصوص كتبوها مع أمل الفوز بالجائزة، أو محكمين في دورة من دوراتها، وأعرف من تحدث عن جائزة البوكر العربية مثلا بكثير من التكبر والسلبية، وكانت له نصوص روائية تشارك باستمرار، وأيضا من ذم جائزة كتارا المهمة والقيمة، والتي يمكن بسهولة أن تغير من حياة المبدع، وتزرع فيها كثيرا من الورد، وبالرغم من ذلك، تسارع نصوصه المنشورة، وربما المخطوطة أيضا في الركض في مضمار تلك الجائزة، على أمل الفوز بها ذات يوم.
لقد تحدثت من قبل عن تلك الجوائز بكثير من الحيادية، قلت عن جائزة البوكر إنها جائزة حقيقية، ولدت من عراقة جائزة عالمية مهمة، هي جائزة مان بوكر البريطانية. ومثلما تفعل مان بوكر في حياة المبدعين، وتزدهر بالإبداع أو تخسف به في حالة ردمها بالنصوص غير الموهوبة أو غير الملهمة، تفعل بوكر العربية أيضا، حين تستنطق الكتابة بخيرها وشرها.
لقد جاءت البوكر حقيقة بتقاليد لم نكن نعرفها أو نلتفت إليها من قبل، مثل الورش الكتابية التي أضحت الآن عالما كبيرا ممتدا، وتقام في كل البلاد العربية، مبشرة بمجد قادم لكتاب قادمين. على أن أهم ما في جائزة البوكر، هو تعاملها مع النصوص بعيدا عن أسماء الكتاب، إنه مبدأ أساسي وهي لا تمنح لكاتب بناء على اسمه ودرجته في الرسوخ وإلا لنالها عشرات من الراسخين الذين دأبوا على التقديم لها، ولم يدخلوا قوائمها الطويلة حتى، أو دخلوا وخرجوا بلا أي نتيجة.
هناك من يؤكد بأهمية نصوص أولئك الراسخين ويستغرب من استبعادها، وهذا أيضا ترف في الحسن بالظن، فمثلما يملك القراء تذوقا خاصا للأدب، يملك المحكمون تذوقا أيضا، لم يعتبر تلك النصوص خارقة، أو عظيمة وبالتالي لم يمنحها ما كان القراء يظنون بأنها تستحق. وما زلت أذكر اللغط الذي ثار حين منحت الجائزة مرة لرواية «طوق الحمام» للصديقة رجاء عالم مناصفة مع رواية للمغربي محمد الأشعري. لقد قيل أن «طوق الحمام» لم تكن رواية بوكر وأنها صفحات طويلة من الاندياح اللغوي الجيد وغير الجيد، وشخصيا أختلف مع تلك الآراء، ولو كنت محكما لمنحت «طوق الحمام» ما تستحق. إنها عمل متقن وكبير وضارب إن صح القول في تاريخ مكة، وجغرافيتها، وشخوصها أيضا. وحتى رواية الأشعري بالرغم من جمود بعض صفحاتها ولكونها عمل كلاسيكي عن سقوط اليسار العربي ومن يقدسونه، إلا أن مجهود الكتابة داخلها واضح وبذلك حصلت على الجائزة.
وأقول بكل صراحة إن مسألة جبر الخواطر لا تبدو عادلة ولا تشبه الكتاب الذين يشار بأن خواطرهم تم جبرها، فهم من التمكن بحيث لا يحتاجون أصلا لجائزة، لكنهم يشاركون في ما يظنونه منحة أدبية، لتكريم الإبداع لا بأس من محاولة الحصول عليها، ولا خسارة أبدا في عدم الحصول عليها. وحتى لو ذهبت الجائزة لمغمور أو صاحب نص واحد أو حتى صبيا في الخامسة عشر، لا بأس ما دام نصه تفوق في سباق ليس الغرض منه تهميش البعض ورفع شأن البعض، وإنما التنافس الشريف الحر مع احتمال الربح والخسارة معا.
منذ ثلاثة أعوام ظهرت جائزة كتارا الضخمة، وسميتها جائزة المستقبل آنذاك لأتها اعتمدت نهجا خالصا وخاصا بها، وهو عدم اللجوء لإعلان قوائم طويلة وقصيرة، وعدم الاكتفاء بفائز واحد، وإنما خمسة فائزين في فرعين خاصين بالأعمال المنشورة وغير المنشورة، وأيضا كونها جاءت بالترجمة للغتين مهمتين هما الفرنسية والإنكليزية، لكل النصوص التي تفوز بلا استثناء.
هذه الجائزة الضخمة أيضا تعرضت لهجوم كبير ووصفت بعد نجاح دورتها الأولى بأنها جائزة لجبر الخواطر، خواطر الكبار الذي صدتهم جائزة البوكر ولم تمنحهم شيئا. وكان هذا قولا مردودا عليه، فقد حصل عليها مع الكبار أيضا شباب يكتبون للمرة الأولى أو الثانية وكانت النصوص الفائزة في كل الدورات حتى الآن، نصوصا حقيقية استحقت الاحترام والتقدير.
من ناحية أخرى، فأنا شخصيا لا أعتبر جبر الخواطر تقليدا سيئا، فقط فليكن في أماكن أخرى غير مضمار الجوائز الأدبية، ولا مانع من جبر الخاطر في تقديم نص لا بأس به لكاتب مبتدئ، تشجيعا، ودفعا لإنتاج أفضل وأشمل في المستقبل، جبر الخاطر، في كلمة طيبة، في مناسبة طيبة. وأذكر أن الكاتب المصري الراحل محمد مستجاب كانت له زاوية ثابتة في جريدة «أخبار الأدب» المصرية، اسمها «بوابة جبر الخاطر»، وعبر تلك البوابة كان يتحدث عن الكتابات الشابة والكتاب الشباب، وكنت أحد الذين كتب عنهم في تلك الزاوية، حين نشرت روايتي الأولى. وأزعم أن جبر الخاطر الذي حصلت عليه من مستجاب في تلك الأيام، كان دافعي الكبير، لأنتج كل ما أنتجته بعد ذلك. لقد قال بأن روايتي تساوت مع رواية «الأشياء تتداعى»، تلك الرواية المشهورة للنيجيري تشينوا أتشيبي، ولم يكن ذلك صحيحا بالطبع، إنما جبر الخاطر الذي قد يثمر. وقد استمرت بوابة مستجاب كما أذكر سنوات طويلة حتى رحل، وكنت آمل أن تستمر بقلم آخر يحمل نفس رؤى مستجاب ونظرته الإنسانية العميقة.
أعود لجبر الخواطر التحكيمي المزعوم، وهذا بناء على تجربتي كمحكم في عدد من الجوائز وتجارب أصدقاء حكموا أيضا، حيث كانت تمر علينا النصوص بخيرها وشرها، بوعيها وهلوساتها، بأقلام كبار وصغار، مشاهير ومغمورين ولا يخطر جبر الخواطر على أذهاننا أبدا. النص في تلك اللحظات يصبح قضية بحاجة إلى حكم عادل، وهذا ما يحدث، وما يحسه الناس من غبن أو ظلم بسبب التحكيم، ناتج من اختلاف مشروع في التلقي كما نردد ولا نمل من الترديد.
لنحافظ على الجوائز الأدبية، لنحافظ عليها حقيقة، فهي مكسب كبير، مهما كانت سلبياتها.

كاتب سوداني

الجوائز العربية وجبر الخواطر

أمير تاج السر

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية