في أورنيك الترشيح لإحدى الجوائز الأدبية، كتبت جملة، من الواضح أنها تخاطب الناشر: رجاء التأكد من الجودة الفنية العالية للعمل، قبل ترشيحه للجائزة، ولن تقبل الأعمال التي تخالف الشروط.
هذه الجملة التحذيرية، تطرح سؤالا مهما، ينبغي أن يجاب عليه بكثير من الدقة، ولا يترك هكذا مجرد سؤال كبير، يتحاوم في الأذهان: من الذي يحدد جودة العمل الإبداعي، من عدم جودته؟ هل هو الناشر مثلا؟، هل هو لجنة للقراءة يكونها الناشر وتوكل إليها المخطوطات التي تصله؟، أم لعله قارئ متمكن، أو كاتب صديق لدار النشر، يتطوع بالقراءة لها، ويكتب تقارير سلبية أو إيجابية.
حقيقة، ومنذ أن باتت الرواية مشكلتنا الرئيسة، وشاغلنا الأول والأخير في المسألة الإبداعية، ومع ازدياد الجوائز الخاصة بها، وإمكان أن تتبلور السمعة المعنوية التي تلحق بالنص الداخل في أي قائمة لأي جائزة، ونحن نغفل تماما دور الناشرين. نتحدث عن الكتاب الجدد، أو الشعراء القدامى والنقاد القدامى، والمؤرخين القدامى، وكتاب المسرح القدامى، والعمال والمزارعين، والتجار، والرسامين، وحتى أرباب السوابق، الذين تحولوا إلى كتاب، ولا نتحدث عن ناشرين قطعا، ساهموا في صناعة هذه الظاهرة بجدارة، وهناك دور نشر بعدد لا يحصى، نشأت في السنوات الأخيرة، وأرى كل يوم من يكتب في مواقع التواصل: صدر كتابي عن دار كذا، ودار كذا، ويطرح قريبا في المكتبات، وأبحث عن تلك الدور التي تذكر، لأجد أنها بالفعل موجودة في محيط النشر، ولها أغلفة ملونة، وإصدارات وكتاب يدعمونها وتدعمهم، وربما قراء يشجعون أيضا بشراء تلك الإصدارات، والتعليق عليها.
أردت أن أتساءل: هل يقرأ الناشرون تلك الكتب التي ترد إليهم؟ سأغفل دور لجان القراءة أو أي كائن يقرأ لدور النشر، وأفترض أن الناشر معني خاصة بالكتب المرشحة للجوائز، هل هو يقرأها؟ والناشرون الحاليون، معظمهم مثقفون وفيهم شعراء وكتاب أيضا، وبعضهم كتب الرواية، وأيضا دخل منافسات الجوائز..
لو كانوا يقرأونها حقا، فبالتأكيد، يلتزمون بمعيار الجودة، ويبتعدون عن المجاملة، تلك الآفة التي تحيق بمجتمعاتنا، المجاملة في كل شيء، حتى في اقتسام السمعة، فالكتاب الرديء يقال أصدرته الدار المعنية، ويأتي بعد ذلك الاتهام المعروف، الذي نقرأه كثيرا، بأن هناك من ينشر كتبا من دون أن يعرف محتواها. ومعرفة المحتوى بالطبع، مهمة جدا، والتأكد من أن الكتاب لا يسيء إلى أحد ما، أو معتقد ما، أو مجتمع بعينه، أو يروج لأفكار عنصرية أو صادمة، مهم أيضا، وغير موضوع الجوائز ـ هناك تهم جاهزة تلصق بالناشر والكاتب معا، إن عبر كتاب من دون أن يدقق في محتواه، الكاتب قد يقصد الإساءة، ويدرجها داخل المحتوى الأدبي، ولكن الناشر لا رأي له غالبا، في كتابة أحد، فهو محايد تماما، وعليه أن يحافظ على ذلك الحياد، ومن ثم لا يُجرح أحد، من كتاب أصدرته دار نشره.
أذكر في بداياتي الأولى، أيام رواية «كرمكول» والحصانة القروية في مصر، أنني استقررت في النهاية، على النشر مع الشاعر الراحل كمال عبد الحليم، في دار نشره الصغيرة المسماة: دار الغد. وكان كمال مثقفا كبيرا وشاعرا ثائرا، وله تجليات كثيرة، ومريدين، وكنت أذهب إلى مكتبه في أحد الأحياء الشعبية المكتظة بالناس، والبيع والشراء، والضجة، لا أذكر أي حي الآن، ولعله كان حي شبرا.. كنت أراه منكبا على النصوص، يقرأها بتأن ويضع خطوطا حمراء تحت الكلام الذي لا يفهمه، أو يظنه فائضا عن حاجة النص، ويضع هوامش يرى أنها قد تفيد النص إن التزم بها الكاتب، وربما يكتب فقرات كاملة فيها أفكار ما، يلصقها على الصفحة التي يحس بأنها تحتاج لعمل.
كان يحرر النصوص من دون أن تكون ثمة مهنة للمحرر معروفة في ذلك الوقت، وحقيقة لا توجد هذه المهنة في النشر العربي إلى الآن، وقد سألته مرة أن يوكل تلك المهمة الشاقة، في القراءة لأحد ما، فرد بأنه لا يثق إلا بقراءته الشخصية للعمل الذي تنشره داره، حتى لا يمر ما يسيء إليها وإلى مؤسسها. وأذكر أن روايتي «كرمكول»، كانت تحوي عبارات كثيرة، قد تعد جارحة أو ليست في مكانها الصحيح، فوضع على تلك العبارات خطه الأحمر، ووضع على الهوامش مقترحاته، أيضا تساءل عن نهاية القصة: ألا ترى أنها ستكون أفضل لو كتبناها بطريقة أخرى؟ ثم زودني بتلك الطريقة، وأعدت النهاية، أيضا غيرت العبارات غير المجدية.
هذا الناشر كان غير مزدحم جدا بالأعباء، أعني ليس بازدحام هذه الأيام، حيث لم تكن ثمة معارض تستقطب الناشرين ليسافروا، ولا فنادق رائجة، يغشونها، ولا مشاركات هنا وهناك، ولا جوائز بالطبع، لكني على ثقة أنه كان سيفعل ما ظل يفعله في داره تلك، حتى رحل، سينكب على الكتب التي سينشرها وسيحررها كلها، قبل أن تنشر، أو تشارك في جوائز من تلك التي غزت الكتابة العربية.
على الناشر التأكد من جودة العمل قبل ترشيحه.
عبارة لم تكتب عبثا، ولا بد كتبت بعد رؤية أهوال شاركت في تلك الجائزة، وكان لها ناشرون لم يهتموا بترميم سمعتها، أو رفضها لأنها قطعا لم تصدر من أقلام تراعي الإبداع وتحترمه.
٭ كاتب سوداني
أمير تاج السر